كل المغاربة الذين لديهم جهاز
تلفزيون في البيت يتابعون نشرات الأخبار في القنوات الفضائية
وأعينهم مثبتة على الشريط الذي يمر أسفل الشاشة، منتظرين بلهفة
مرور خبر سقوط قتلى أو أسرى من الجيش الإسرائيلي بين أيدي مجاهدي
حماس.
كل خبر مهما كان صغيرا عن سقوط طائرة إسرائيلية بدون طيار بصاروخ
أطلقته المقاومة، أو سقوط قتلى وجرحى في منزل مفخخ استدرجت
المقاومة إليه كتيبة إسرائيلية، هو انتصار عظيم ليس فقط لحماس
وفلسطين وإنما لكل الأمة العربية والإسلامية والعالم الحر.
إن الأنظمة العربية التي تطالب بإرسال الخبز والحليب لسكان غزة،
يجب أن تخجل من نفسها وهي ترى الأطفال والرضع ملفوفين في الأكفان.
فما يحتاجه سكان غزة اليوم ليس الخبز والحليب، وإنما السلاح لكي
يدافعوا عن أنفسهم ضد هذا الجيش الهمجي الذي يريد مسحهم من الخريطة.
ما يحدث اليوم في غزة ليس حربا عادية، بل تصفية عرقية وإبادة
عنصرية مثل تلك التي عاشها المسلمون في البلقان على يد الصرب.
فإسرائيل التي عجزت حتى الآن عن إيقاف صواريخ المقاومة لا تفعل غير
قصف المستشفيات عندما تمتلئ بالمسعفين والجرحى والمساجد عندما
تمتلئ في أوقات الصلاة وبيوت الأسر التي يباد أفرادها عن آخرهم.
وما يغيب عن أذهان القادة العرب الذين يتابعون حرب الإبادة هذه
ببرودة دم غريبة، هو أن إسرائيل إذا نجحت في إحكام طوقها على غزة
وكسرت شوكة حماس وحركات المقاومة التي يقاتل مناضلوها في صفها، فإن
التاريخ سيسجل نكبة العرب في نسختها الثانية. وستعود قضية فلسطين
عشرين سنة إلى الوراء، وستفرض إسرائيل غطرستها على المنطقة بأسرها.
وللأسف الشديد فالمقاومون في غزة، الذين يخوضون اليوم حرب شوارع
شرسة ضد القوات الإسرائيلية، ليس لديهم من دعم آخر سوى أكف مليار
مسلم في العالم. فعليهم وحدهم تلقى مسؤولية تجنيب الأمة العربية
هذه النكبة الجديدة، بإيمانهم وعزيمتهم وصواريخهم وأسلحتهم القليلة
المتوفرة لديهم.
فالمقاومون في غزة وحدهم اليوم أكثر من أي وقت سابق. ساكن البيت
الأبيض الذي يستعد للرحيل يقول بأن إسرائيل لديها الحق في الدفاع
عن نفسها. حتى ولو قتلت نصف أطفال غزة. ساركوزي الذي يريد أن يملأ
الفراغ الذي تركه بوش في المنطقة، يقول بأن حماس يجب أن توقف
صواريخها ضد إسرائيل. وينسى أن الصواريخ الحقيقية هي تلك التي
تتهاطل كالمطر منذ أيام على بيوت غزة ومساجدها ومستشفياتها.
عمرو موسى، صاحب السيغار الكوبي، يصرخ ويعاتب الاتحاد الأوربي على موقفه
السلبي مما يقع في غزة. وينسى أن جامعته العربية فشلت حتى اليوم في
عقد قمة طارئة لاتخاذ موقف عربي موحد مما يحدث في غزة.
باختصار، نعيش اليوم التجسيد الحي للبيت الشعري الذي أنشده محمود
درويش في قصيدته «مديح الظل العالي» عندما قال «كم كنت وحدك يا ابن
أمي كم كنت وحدك». إن هذه الوحدة والعزلة في مواجهة الصراع المحتوم
مع العدو الإسرائيلي هي التي ستصنع النصر في غزة، مثلما صنعته قبل
سنتين في جنوب لبنان.
والأكيد أن العالم مثلما لم يعد هو نفسه بعد اعتداءات الحادي عشر
من سبتمبر، فإنه لن يكون هو نفسه بعد اعتداءات غزة. فحرب الإبادة
الجماعية هذه سيكون لها ما بعدها إقليميا وعربيا ودوليا.
وإسرائيل المشغولة والمزهوة اليوم بارتفاع شعبية حزب وزيرها في الدفاع على
بعد أشهر من الانتخابات، بسبب كل الأطفال الذين قتلهم في غزة، تنسى
أن شعبيتها تعرف هبوطا مهولا لدى الرأي العام العالمي.
والفضل في ذلك يرجع للفضائيات العربية التي تتابع نتائج العدوان
أولا بأول. وربما هذا ما دفع «جلعاد أردان» العضو في الكينيسيت
الإسرائيلي عن حزب الليكود إلى مطالبة وزير الاتصال الإسرائيلي
ورئيس الحكومة بالتشويش على القنوات الفضائية العربية من أجل منع
مشاهدتها في الشرق الأوسط.
فحسب «العضو» فإن هذه القنوات تدير حملة تحريض كاذبة ضد إسرائيل
وتنشر صورا مزعزعة عن ضحايا الهجوم الإسرائيلي بشكل مخالف لآداب
مهنة الصحافة. ولهذا السبب يجب التعتيم على هذه القنوات كشكل من
أشكال مقاتلتها حتى تنخفض نسبة مشاهدتها وتنخفض مداخيل إشهاراتها.
إسرائيل التي لا تحترم اتفاقية جنيف التي وقعت عليها، والتي تنص
على عدم التعرض للمدنيين في الحروب، تعطي العالم دروسا في أخلاقيات
وآداب الصحافة. فالصحافة المهنية في نظرها هي عدم نقل الصور
المزعزعة لما تقترفه أيادي جنودها في غزة. أما تقتيل الأطفال وشي
لحومهم بنيران القذائف فيعتبر عملا مهنيا يندرج ضمن ما يسميه
ساركوزي وبوش بالدفاع عن النفس.
إن إسرائيل تريد من الإعلام العربي أن يقوم بما تقوم به بعض
القنوات العمومية الفرنسية مثلا، كقناة الخامسة التي بثت قبل أمس
حلقة من حلقات برنامجها «سي دون لير» حيث عرضت روبورتاجا عن «مأساة»
أحد المستوطنين مع صواريخ حماس التي أحدث أحدها ثقبا صغيرا في
الرصيف المحادي لمنزله، والذي سارع عمال البلدية لإصلاحه. في الوقت
الذي كان عدد ضحايا صواريخ الجيش الإسرائيلي قد وصل إلى 550 شهيدا
و2700 جريح. هذه هي أخلاق المهنية الإعلامية كما تؤمن بها إسرائيل
والإعلام الذي يدور في فلكها.
إسرائيل تعرف أهمية الإعلام وقدراته الحربية التي تفوق قدرات
الجيوش الجرارة. ولذلك فهي تقوم بكل ما تستطيع القيام به للترويج
عبر الإعلام لقصص مختلقة حول الصراع بين حماس وسكان غزة من جهة
وبين حماس ومنظمة فتح من جهة أخرى.
وقد عرضت القناة العاشرة الإسرائيلية اتصالا لأحد صحافييها بأحد
قياديي حركة «فتح»، وبدأ يسأله عن معاناة المواطنين وبالخصوص رجال
«فتح» الذين يروج حولهم أن حماس تفرض عليهم الإقامة الجبرية في
بيوتهم إلا لأداء صلاة الجمعة في المسجد. وقبل أن يجيب القيادي في
«فتح» أخذت أمه السماعة وصرخت في أذن الصحافي الإسرائيلي قائلة «لم
يعد هناك فتح وحماس في قطاع غزة، الجرائم الإسرائيلية وحدتنا وصرنا
كلنا حماس. قل لحكامك أنهم مجرمو حرب».
إذا كان هذا جواب أم أحد قياديي «فتح» التي تريد إسرائيل اللعب على
تناقضاتها مع حركة «حماس»، فكيف يمكن أن نستوعب كلام بعض القادة
والصحافيين العرب الذين يؤاخذون على حماس جرها للمنطقة وسكانها إلى
الحرب الإبادة. إن هؤلاء بلا شك يريدون أن يبحثوا للعدوان
الإسرائيلي عن مبررات عوض إدانته والوقوف إلى جانب حماس وحركات
المقاومة بدون خجل أو خوف أو تردد. فالظرف الحالي يفرض الوقوف إلى
جانب المقاومة، مهما كان اختلافنا الإيديولوجي معها، وعندما تنتهي
هذه المجزرة يمكن أن ننتقد ونؤاخذ ونتفلسف على حماس كما نريد.
علينا ألا نكون ساذجين ونعتقد أن حرب الإبادة ضد غزة ليست سوى دفاع
عن النفس لإيقاف صواريخ المقاومة ضد المستوطنات الإسرائيلية. إن
الأهداف أبعد بكثير من ذلك. وأهمها جر إيران إلى رد فعل سياسي يكون
بمثابة الخطأ الذي سيجعل إسرائيل تضغط على الرئيس الأسود الذي
سيدخل البيت الأبيض لكي يشن حربا على إيران، خصوصا بعد أن لوحظ
حماسه الفاتر لتكرار خطأ بغداد مع طهران. إن السيناريو الذي بسببه
جرت إسرائيل صدام حسين لاجتياح الكويت وتسبب في حصار العراق تمهيدا
لاجتياحه وإعدام رئيسه، هو نفسه السيناريو الذي يتكرر اليوم مع
إيران عبر اجتياح الجيش الإسرائيلي لغزة وممارسته لكل هذه الوحشية
ضد المدنيين العزل.
وهذا أيضا ما يفسر الصمت العربي الرسمي في منطقة الشرق الأوسط
بالخصوص أمام ما تقترفه إسرائيل في غزة. فالأنظمة العربية هناك
تعتبر أي شيء يضعف إيران عملا مباركا، حتى ولو مر على أشلاء آلاف
الفلسطينيين. فما يهمهم أولا وأخيرا، وخصوصا العربية السعودية، هو
أن يوضع حد للنفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة.
لكل جانب من المشاركين في العدوان على غزة هدف معين. إسرائيل تريد
إعادة هيبة جيشها المنهارة منذ سنتين في جنوب لبنان، والقادة
الحربيون الإسرائيليون يريدون رفع شعبيتهم على جماجم الأطفال
استعدادا لاكتساح الكنيسيت، والقادة العرب ينتظرون جني نتائج صمتهم
مقابل إضعاف إيران، أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي الرابح
الأكبر إذا ما نجحت الخطة واستجابت إيران إلى «نداء الحوريات»
وابتلعت الطعم. آنذاك سيفرك تجار السلاح الأمريكيون الذين يعولون
على حرب جديدة ضد إيران أيديهم فرحا بالصفقات الجديدة التي
سيبرمونها مع وزارة الدفاع الأمريكية.
فحرب العراق استنفدت صفقاتها، وحان الوقت لاكتشاف سوق جديد لتصريف
الصناعة الحربية الأمريكية، التي بفضلها ستنتعش الخزينة للخروج من
الأزمة الاقتصادية التي تهدد الوجود الأمريكي برمته.
عندما تندلع الحروب غالبا ما تتجه الأنظار نحو القادة العسكريين
والسياسيين والصحافيين بحثا عن أجوبة لما يقع، ولا أحد يلتفت نحو
الشركات العالمية لصناعة الأسلحة. رغم أن مدراء هذه الشركات هم من
يملك الأجوبة الصحيحة لكل أسئلة الحروب الصعبة...
طيلة الأسابيع الأربعة التي عاشت غزة فيها
تحت نيران المحرقة الإسرائيلية، سقطت أقنعة كثيرة عن وجوه ظلت
متنكرة وراء ملامح وقسمات خادعة ليست لها.
أخيرا عرف الفلسطيني والعربي والمسلم من معه ومن ضده. من يريد
له البقاء ومن يتمنى محوه من الخريطة. من يقف إلى جانبه ومن
يطعنه من الخلف.
سقط القناع عن الوجه البشع للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز،
الذي كان إلى الأمس يتم استقباله في منتدى الدوحة كحمامة سلام،
للحديث عن آفاق التعايش الفلسطيني الإسرائيلي. سقط القناع عن
الحمامة الوديعة لكي تظهر مخالب الصقر الحادة. وسقط القناع عن
جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها مناصفة مع ياسر عرفات، والذي
دفع حياته ثمنا لتشبثه بالقدس عاصمة لفلسطين.
لو كان لأكاديمية جائزة نوبل قليل من المروءة، لسحبت جائزتها
من مجرم الحرب هذا الذي قتل جيشه في أقل من عشرين يوما 1200
فلسطيني، نصفهم أطفال ونساء. إذا كان شيمون بيريز رجل سلام
فلسنا ندري كيف يكون رجل الحرب إذا.
الغريب في الأمر أن الإسرائيليين الذين يحملون جوائز ومهمات
أممية مرتبطة بالسلام هم أكثر المتورطين والداعين إلى الحرب.
وعلى رأسهم المغني اليهودي الفرنسي من أصل جزائري «إنريكو
ماسياس»، والذي يشتغل مع اليونسكو سفيرا للسلام. ومع ذلك لم
يجد أي حرج في تزعم مسيرة لليهود المتطرفين في باريس أمام
سفارة إسرائيل دعما للمحرقة التي يقترفها جيشها في غزة.
لو فعل هذا فنان عربي ضد مصالح إسرائيل لتبرأت منه اليونسكو
إلى يوم الدين. لكن مادام سفيرها يحمل الجواز الإسرائيلي فلا
بأس.
حتى موقع «غوغل» أصبح متعاطفا مع إسرائيل هذه الأيام. وكل من
جرب ترجمة جملة «je dis merde sur l etat d Israel» إلى
العبرية يحصل على ترجمة مغايرة لما طلبه. فالموقع يرفض أن
يترجم هذه الشتيمة في حق دولة إسرائيل، ويعيدها إليك كالتالي
عندما تطلب ترجمتها من العبرية إلى الفرنسية «Je n ai rien a
dire sur l etat d Israel»، أي «ليس لدي أي شيء أقوله حول دولة
إسرائيل». سيقول البعض أن القائمين على موقع «غوغل» يحترمون
سيادة الدول ولا يترجمون الشتائم بحقها. لكن يبدو أنهم يحترمون
إسرائيل وفرنسا دون غيرهما من الدول. لأنك عندما تجرب كتابة
نفس الجملة بخصوص فلسطين فالموقع يكون أمينا في ترجمة الشتيمة.
أما عندما يتعلق الأمر بدولة إسرائيل وفرنسا فالموقع يردد
جوابا واحدا، وهو «ليس لدي شيء أقوله حول إسرائيل أو فرنسا».
وهكذا نكتشف أن «السي غوغل» هو أيضا لديه موقف من فلسطين.
وعلى ذكر فرنسا، سيكتشف المشاهدون الذين يتابعون برامج قناة
«فرانس2» أنها برمجت لليلة الأحد فيلم «لائحة شيندلر» الذي
يروي مأساة اليهود مع محرقة النازية. والتوقيت طبعا ليس بريئا.
فالإعلام الفرنسي العمومي كشف عن وجهه الحقيقي، ووقف إلى جانب
الرواية الإسرائيلية للحرب على غزة. وهو ببرمجة هذا الفيلم،
المؤثر حقيقة بسبب الخدع السينمائية التي وظفها «سبيلبرغ»
ببراعة في مشاهده، يريد أن يعيد إلى إسرائيل شيئا من آدميتها
التي فقدتها بالكامل في المحرقة التي أوقدتها في غزة. فعوض أن
يرى الفرنسيون الدخان المتصاعد من غزة والمشبع بغازات الفسفور
التي تسلخ الجلد وتصل إلى العظم، سيشاهدون مئات السجناء اليهود
في مراكز الاعتقال النازية عراة حفاة يقفون بانتظار إدخالهم
إلى الأفران في فيلم «لائحة شيندلر».
فإسرائيل التي حولت طيلة 22 يوما غزة إلى فرن كبير مفتوح على
السماء لشواء الأطفال والنساء، بحاجة إلى لعب دور الضحية أمام
الرأي العام الفرنسي. فلهذا السبب بالضبط أوجدت إسرائيل متاحف
الهولوكوست وأفلام الهولوكوست. من أجل استخدامها لتذكير
الأوربيين بماضيهم الأسود اتجاه اليهود، وابتزازهم عاطفيا
وسياسيا في كل مرة تبذر فيها إسرائيل احتياطها القليل من
الإنسانية وتقف مفلسة أمام العالم مجردة من إنسانيتها وآدميتها.
إسرائيل تريد اليوم بعد كل هذا الدمار والدم والخراب، أن تظهر
أمام العالم كضحية. فقد أعلنت عن وقف لإطلاق النار من جانب
واحد، ومع ذلك لازالت حماس تطلق نحوها صواريخها. هكذا تصبح
إسرائيل في نظر حلفائها دولة مظلومة، تبادر إلى وقف إطلاق
النار من جانبها وعوض أن يثمن «أعداؤها» مبادرتها هذه يردون
عليها بالصواريخ.
إسرائيل تريد أن تخرج من مستنقع غزة بأقل الأوساخ الممكنة.
وليست وحدها، بل جارتها مصر أيضا يريد نظامها أن يصنع له عذرية
جديدة في شرم الشيخ، بعد أن سمح للجيش الإسرائيلي بدخول غزة
وجلس يسترق السمع بالقرب من معبر رفح لصرخاتها وهي تغتصب من
طرف العدو.
وكم كان خطاب حسني مبارك مضحكا وهو يتصنع الجدية والحزم مخاطبا
إسرائيل مطالبا إياها بضرورة وقف إطلاق النار فورا. وكم كان
مضحكا استجابة أولمرت لنداء مبارك على الفور وإعلانه وقف إطلاق
النار من جانب واحد. وقد تساءل الجميع مستغربا هذه القدرة
الفائقة التي كشف عنها حسني مبارك في التأثير على الحكومة
الإسرائيلية، واستغربوا أكثر لماذا لم يستعمل هذه القدرات
العجيبة منذ عشرين يوما عندما كانت مئات الضحايا تسقط يوميا
على بعد كيلومترات من مقر رئاسته.
كانت مسرحية سخيفة تلك التي مثلها حسني مبارك ووزيره أبو الغيط،
لكي ينقذا ماء وجه مصر، ولو على حساب الدم الفلسطيني. فقد
انتظرا إلى حين إنهاء الجيش الإسرائيلي مهمته القذرة في غزة،
لكي يحملا معا إسرائيل مسؤولية ما وقع. حتى يبرئا ذمتهما من
دماء الشهداء الفلسطينيين. وكأنهما لم يكونا هما من كال
الشتائم والاتهامات لمنظمة حماس وصواريخها «العبثية». وكأنهما
ليسا هما من أغلق معبر رفح في وجه إخوانهم الفلسطينيين وساهما
معا في محاصرة غزة لكي تصب فوقها طائرات العدو رصاصها المصهور
وقنابلها الفسفورية.
ولعل أحد أبشع الأمثلة على سعي إسرائيل للعب دور المنقذ لمحو
صورة القاتل الجبان التي التصقت بها بسبب استهدافها للأطفال،
هو ذلك الروبورتاج الذي بثته كل القنوات الإسرائيلية والعالمية
قبل أمس حول ذلك الطبيب الفلسطيني الذي كان طيلة العدوان على
غزة يعالج الفلسطينيين والإسرائيليين في مستشفيات الجانين
لإيمانه الكبير بإمكانية السلام والتعايش بين الاثنين. فقد كان
الطبيب يتحدث مباشرة مع بلاطو القناة الإسرائيلية فإذا به يبدأ
في الصراخ والعويل على الهواء، فقد وصله خبر قصف منزله من طرف
الجيش الإسرائيلي وقتل وجرح أطفاله. فأصيب المذيع الإسرائيلي
بالجمود وقال متأسفا أن أقصى ما يمكن أن يقوم به هو الاتصال
بالإسعاف لإنقاذ أطفاله. وأرسلت القناة فريقا صحافيا لتغطية
عملية الإنقاذ، في الوقت الذي كان فيه صحافي آخر يصور الطبيب
الفلسطيني وهو ينهار باكيا فوق الأرض.
إسرائيل ترتكب جريمة قتل الأطفال، وفوق هذا تريد أن تظهر بمظهر
المنقذة الذي يهب لنجدة الأطفال. أي أنها تقتل الميت وتمشي في
جنازته.
لقد كانت تلك القذيفة التي أصابت بيت الطبيب الفلسطيني المؤمن
بالسلام بمثابة صفعة أيقظته من أوهامه. خصوصا عندما تقدمت منه
إسرائيلية في صالة المستشفى حيث يرقد أبناؤه وعوض أن تصبره
صرخت فيه قائلة «ومن قال لنا إنك لم تكن تخفي أسلحة في بيتك».
هذه هي إسرائيل، تطلق الصواريخ على الأطفال وترسل فرق الإنقاذ
مصحوبين بالمصورين لنجدتهم. تشعل فتيل الحرب وتبادر إلى وقف
إطلاق النار من جانب واحد. وكل ذلك لكي تظهر بمظهر الضحية أمام
العالم.
الزعماء العرب أيضا يريدون أن يظهروا أمام العالم بمظهر البريء
الذي ليست له يد فيما وقع. مع أن الجميع يعرف أن بعضهم يبيع
ويشتري في الدم الفلسطيني ويقايض به مصالحه وأهدافه.
إن أكبر معروف يمكن أن يصنعه العرب في القضية الفلسطينية هو أن
يبتعدوا عنها ويتركوا الفلسطينيين وجها لوجه مع العدو. فقد
اتضح اليوم أن الأقنعة سقطت، وأن محرقة غزة كانت وراءها بعض
الأنظمة العربية وإسرائيل وأمريكا. وكما يقول المثل، اللهم
نجني من أصدقائي أما أعدائي فأنا أتكفل بهم.
رشيد نيني