فكما كانت الشيوعية قابعة وراء
دول الستار الحديدي، وتمثل تهديدا لدول “العالم الحر”، فانه يراد للمواجهة
الراهنة ان تضع "الارهاب" و"قوى
الظلام" (والكلام لوزير الخارجية الاميركي) في
مواجهة "الحرية" و"الحضارة"
في الغرب.
دعك من المسعى الاسرائيلي الخبيث واللحوح لإذكاء تلك الفكرة، ومحاولتها
اثبات الحضور ضمن معسكر “الحرية والحضارة”، وإيهام الجميع بأنها بدورها
مستهدفة من جانب قوى “الظلام” لان ما نريد ان نلفت الانتباه اليه شيء آخر،
هو ان هذا الخطاب يعود بالولايات المتحدة سنوات الى الوراء، اذ يغريها
بالسعي لتسيد العالم مرة اخرى [ لصالح إسرائيل ] مع تكريس موقعها في زعامة
“العالم الحر”. وتلك اجواء تستصحب تناميا للقوى اليمينية داخل الولايات
المتحدة وتهديدا للحريات العامة والمدنية، الامر الذي سيكون العرب
والمسلمون في مقدمة ضحاياه، باعتبارهم منسوبين الى “قوى الظلام” المفترضة.
وذلك ينذر بموجة جديدة من الارهاب والعنصرية، قد لا تختلف كثيرا عما تعرض
له اليابانيون في الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية.
يلفت النظر في المشهد ايضا
اننا كثيرا ما اخذنا على الاميركيين والغربيين بعامة انهم عادة ما يعممون
الاتهام على العرب والمسلمين كافة، اذا ارتكب واحد منسوب اليهم جرما في اي
مكان بالعالم، وهذا صحيح، لانه ما ان وقع التفجير حتى كانت له أصداؤه
السريعة في مختلف الاقطار الغربية، فضلا عن الولايات المتحدة بطبيعة الحال،
فأغلقت مدرسة للمسلمين في كندا، وألقيت قنبلة حارقة على مسجد بأستراليا،
واعتدي بالضرب على محجبات في لندن، وحطم مطعم يملكه احد المسلمين في برلين،
وأخلت الشرطة مسجدا في لشبونة، واضطر بعض المسلمين الأتراك الى حلق لحاهم
في هولندا.
ورغم ان جهود المنظمات الاسلامية في الولايات المتحدة نجحت بصورة نسبية في
دفع الادارة الاميركية الى اتخاذ موقف متوازن والدعوة الى منع المساس
بالمسلمين او مساجدهم، فضلا عن ان عمدة نيويورك وفر لهم حماية أمنتهم، الا
ان ذلك لم يكن كافيا في وقف العدوان على المسلمين الاميركيين وعلى العرب
بعامة.
المفارقة التي حدثت تتمثل في ان العرب والمسلمين وهم يدينون ويستنكرون
تعميم الاتهام عليهم، فانهم توفوا في الواقع كما لو كانوا جميعا متهمين،
ويتعين عليهم ان يغسلوا أيديهم ويعلنوا براءتهم من التهمة. وهو ما تبدى في
التسابق الذي حدث على استنكار ما جرى من جانب كل ذي شأن، وفي الإلحاح عبر
وسائل الاعلام المختلفة على ان الاسلام دين السلام وانه يرفض العنف وينهى
حتى في الحرب عن المساس بالمدنيين الأبرياء.. الخ.
تنافس الجميع في الاعتذار عن شيء لم يفعلوه ولم يكونوا طرفا فيه، بل لم
يثبت بشكل قاطع من الذي فعله، وحتى اذا ثبتت مسؤولية بعض المسلمين عما جرى،
فليس مفهوما لماذا لا يحاسب كل بجرمه، ولماذا تطالب كل فئة مسلمة بإعلان
البراءة والتنصل من الفعل.
ليس ذلك فحسب، وانما تصرف بعضنا كما لو انه تعين علينا ان نحبس أنفاسنا
وننفض أيدينا من كل شيء، انتظارا لرد الفعل الاميركي الذي لا نعرف مداه،
ولسنا متأكدين من كل اهدافه. حتى ان مركز “العودة” الفلسطيني في لندن وزع
تعميما أعلن فيه عن إلغاء ندوة كان قد اعلن عن عقدها في 17 من شهر سبتمبر
الحالي بمناسبة ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا، بمقر كلية الدراسات الشرقية
والافريقية. كما أعلن المركز عن إلغاء مسيرة كان يفترض القيام بها في لندن
في الثلاثين من شهر سبتمبر الحالي، احتفالا بمرور عام على الانتفاضة. وهو
ما فعلته جهات اخرى مماثلة.
والامر كذلك، فهل لنا ان نقول بأننا بصدد طور جديد في العلاقات الدولية
تفرض فيه الولايات المتحدة “أجندتها” على الجميع، بحيث لا ننشغل الا
بهمومها، ولا نفرح ولا نحزن الا لأفراحها وأتراحها؟!
نشر موقع “إسلام اون لاين”
في 13/9 رسائل متعددة لمسلمين يعيشون في الولايات المتحدة الاميركية طالبوا
فيها بتشكيل لجنة دولية للإشراف على التحقيق فيما جرى. ليس فقط باعتبار ان
ضحايا التفجيرات بينهم عدد غير قليل من العرب والمسلمين الاميركيين او
الذين ينتمون الى جنسيات اخرى، ولكن ايضا لأن المباحث الفيدرالية الاميركية
لها سوابق مشهودة في التأثير على سير التحقيقات وتلفيق التهم، وتلبيسها
لأطراف دون اخرى. اقترحت فكرة لجنة التحقيق الدولية فتاة من الينوي اسمها
إيمان محمد، اما الذين شككوا في دور المباحث الفيدرالية فكان بينهم عاصف
بيات ولارا جميل، وآخرون.
حين طالعت هذه الرسائل خطرت لي على الفور قصة عالم الذرة الاميركي، ذي
الاصول الصينية، وان هو لي، الذي اتهم قبل سنتين بتسريب معلومات حول
الابحاث الذرية الاميركية والتجسس لحساب وطنه الاصلي، وألقت المباحث
الفيدرالية القبض عليه، بعد ان وجهت اليه 59 تهمة، منها 39 تهمة عقوبتها
السجن مدى الحياة. فضح الرجل وقدمه الاعلام الاميركي بحسبانه جاسوسا خطيرا
عمل على تهديد الامن القومي، وما برح التلفزيون يبث صورته في كل مناسبة وهو
مكبل بالسلاسل.
أمضى العالم الكبير تسعة أشهر في السجن، دمرت فيها حياته وأسرته، ولكن فريق
المحامين الذي تولى الدفاع عنه نجح في إثبات تلفيق التهم له، وخداع المباحث
الفيدرالية للقاضي الذي أمر بسجنه. وبين ان أنباء كانت قد تسربت عن امكانية
حدوث اختراق من قبل الصين للجدار الامني في مختبر “لوس الموس”، أهم معقل
للأبحاث النووية بالولايات المتحدة. وكان صاحبنا هذا الذي يعمل به صيدا
ثمينا ومناسبا تماما لتلبيسه التهمة، ومن ثم وقف الحديث عن التسريب،
ففعلوها دون تردد.
حين انكشف الامر ووضعت الحقيقة أمام القاضي جيمس باركر، فانه أصدر أمره
ببراءته وإطلاق سراحه فورا، ووجه لوما شديدا للمباحث الفيدرالية قائلا ان
رجالها “أخجلوا وأهانوا هذه الأمة وكل مواطن فيها”.