ثلاثة اخبار مهمة وذات
مغزى تلاحقت يوم الجمعة الماضي
،25/2-2005،
ترسم بعضا من ملامح المشهد العربي، وتستحق منا قراءة متأنية ووقفة طويلة.
اذ بعد ظهر ذلك اليوم اعلنت وكالات الانباء من القدس المحتلة أن الحكومة
الإسرائيلية قررت اطلاق حملة بناء جديدة في مستوطنات الضفة، شملت بناء
نحو 6400 وحدة استيطانية جديدة، ومنح «تراخيص» لأكثر من بؤرة استيطانية.
في الوقت ذاته كشفت التقارير الصحفية عن ان حكومة اريل شارون التي اعلنت
عن اصرارها على المضي في تنفيذ خطة «لفك الارتباط» احادي الجانب من قطاع
غزة سوف تسلم القطاع حقا الى السلطة الفلسطينية، التي سيكون «سلطانها»
مقصورا على ما يجري على الارض، في حين ستظل إسرائيل مسيطرة على الاجواء،
وسيتم ذلك من خلال اقامة «مظلة جوية» إسرائيلية تراقب الحاصل على الارض،
على غرار ما هو معمول به على الحدود الشمالية للبنان.
بعد ساعتين تقريبا من
اعلان هذه الاخبار، تناقلت وكالات الانباء خبرا آخر مفادة ان رئيس
الوزراء الإسرائيلي اريل شارون، تلقى دعوة من الرئيس التونسي زين
العابدين بن علي لحضور المؤتمر الدولي الذي سيعقد في العاصمة التونسية في
شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل حول «ادارة الانترنت وقضايا حقوق
الانسان والامن، وتأمين العلوم والتقنية».
وحسب المعلومات التي خرجت
من تل ابيب، فإن الرئيس التونسي وجه الدعوة لشارون من خلال رسالة شخصية.
عبر فيها عن سروره لمشاركته في المؤتمر، وثقته في أن تلك المشاركة ستغني
ابحاث المؤتمر وستساهم في نجاحه (!) ـ كما اشارت الرسالة الى انها «ستكون
فرصة غير عادية لتعميق الدور الاستراتيجي للتقنية والاتصالات، واحياء
التعاون الاقليمي والعالمي، لما فيها الرخاء والازدهار لشعوبنا».
في اعقاب اطلاق خبر زيارة
شارون لتونس، حيث حل الليل، نقلت وكالات الانباء خبرا عاجلا من تل ابيب،
تحدث عن قيام شاب فلسطيني بتفجير نفسه على مدخل احد الملاهي الليلية،
الامر الذي ادى الى قتل اربعة إسرائيليين واصابة خمسين، بينهم سبعة في
حالة خطرة، وفي التفاصيل عرف ان الشاب اسمه عبد الله بدران من قريه «دير
الغصون» الواقعة شمال طولكرم بالضفة الغريبة. وهو طالب جامعي عمره 21
عاما، وكان معروفا بانتمائه الى تنظيم «فتح».
كل واحد من تلك الاخبار
كانت له رسالته. فالخبر الاول يقول بصريح العبارة ان سياسة الحكومة
الإسرائيلية لم تتغير، فالاستيطان وافتراس الارض الفلسطينية مستمر، كما
ان الانسحاب من غزة، الذي يستخدم شارون في وصفه، تعبير الارتباط ليس له
أية علاقة لا بالسلام ولا بالتسوية، ولا بفتح الافق امام قيام دولة
فلسطينية مستقلة، ولكنه «ضرورة» لجأ اليها شارون، بعدها ادرك ان بقاء
قواته في غزة باهظ التكلفة، ومن ثم وجد الحل في ان يسحبها من الارض
ويبقيها في الجو. ولكنه قدم مشروعه باعتباره «تنازلا» من جانبه
للفلسطينيين وهو «طعم» صدقه البعض، حتى اعتبروه خطوة لتنفيذ «خارطة
الطريق»، في حين ان الرجل لم يقل شيئا من ذلك القبيل، وإن سايرهم لاحقا
فيما تخيلوه أو تمنوه.
الخبر الثاني يقول ان بعض
العرب اتجهوا الى مغازلة إسرائيلي وتدليل شارون، وان الذين سايروا الرأي
العام الغربي الغاضب في العلن، لم يكفوا عن التواصل مع إسرائيل بعيدا عن
الاعين أو في السر. وهو تدليل اقترن باستغفال الرأي العام العربي، مرة
بالادعاء بأن مشاركة شارون في المؤتمر الدولي، الذي سيعقد في تونس بمثابة
«فرصة غير عادية لتعميق الدور الاستراتيجي والاتصالات»، ومرة بالقول بأن
مشاركته في المؤتمر الذي سيقام تحت رعاية الامم المتحدة «ليست تطبيعا مع
إسرائيل»(!).
ومن أسف ان الاجواء
الراهنة باتت محملة برياح متعددة تصب كلها باتجاه تكريس وتعزيز المصالح
الإسرائيلية. فبعد الافراج عن الجاسوس الإسرائيلي عزام في مصر، وجدنا في
اجتماع شرم الشيخ الاخير ان شارون نجح في استعادة السفيرين المصري
والإسرائيلي الى تل ابيب، كما فوجئنا بأن نائب وزيرة التربية والتعليم
عضو الكنيست الحاخام ميخائيل ملكيؤور، قد قام بزيارة ـ لم تعد سرية ـ
لقطر، وسط انباء عن ان قطر ستكون من بين الدول العربية، التي ستقيم
علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في العام الحالي.
هذه الهدايا التي برحت
تنهال على إسرائيل في حين ان شيئا في سياستها لم يتغير. وما اعنيه هو
الخطوط الرئيسية للسياسة المتمثلة في استمرارا لاحتلال وتكريس الاستيطان،
واعتقال 8 آلاف فلسطيني والاستمرار في بناء السور الوحشي، الى جانب
الاصرار على رفض حق عودة الفلسطينيين، مع مواصلة تهويد القدس.. الخ.
بكلام آخر، فإن الطرف
العربي يقدم تنازلات اساسية متمثلة في المضي قدما في التطبيع والغاء
مقاطعة إسرائيل، في حين ان ما تقدمه إسرائيل هو مجرد اجراءات رمزية، من
قبيل الافراج عن اعداد من الاسرى المرضى، أو الذين قاربت محكومياتهم على
الانتهاء، واتخاذ بعض خطوات «تخفيف المعاناة» على الفلسطينيين.
رسالة الخبر الثالث انه
يعد ردا على ما سبق على استمرار العدوان المتمثل في الاستيطان وعلى
الهرولة العربية غير المبرره صوب إسرائيل، فهذا الشاب الفلسطيني البالغ
من العمر 21 عاما، في حقيقة الامر لم يفجر شحنه الديناميت التي ملأ بها
حزامه الناسف في رواد الملهى، ولكنه كان يفجر شحنة الغضب والمرارة في وجه
إسرائيل كلها. بل كان يعبر فضلا عن ذلك عن احتجاجه على كل ما يجري حوله،
بما في ذلك الهرولة العربية المخزية والثابت حتى الآن ان تصرف الشاب كان
شخصيا وتلقائيا، وعند الحد الاقصى فإنه رتب الامر مع مجموعة من اصدقائه،
الذين شاركوه في الشعور بالمهانة والغضب. آية ذلك ان منظمات المقاومة
الرئيسية، خصوصا «حماس» و«الجهاد» و«كتائب الأقصى»، نفت وجود أي علاقة
لها بالعملية، واكدت التزامها باتفاق التهدئة الذي تم التوصل اليه قبل
اسابيع قليلة، لإعطاء الفرصة لرئيس السلطة الفلسطينية الجديد لاختبار
إمكانية التوصل الى تسوية مع الحكومة الإسرائيلية.
مع ذلك فإن إسرائيل انتهزت
الفرصة لتسوية حساباتها تارة مع «حزب الله» في لبنان، وتارة مع سورية حين
ادعت في البداية ان «حزب الله» وراء العملية الفدائية، ثم عدلت عن ذلك،
حينما اكتشفت عدم دقة «الحبكة»، وصوبت سهامها نحو سورية، بدعوى انها تأوى
بعضا من قادة المقاومة، وخصوا بالذكر تنظيم الجهاد، الذي حاولت تحميله
مسؤولية ترتيب العملية، وذلك رغم اعلان قيادة الجهاد عن انقطاع صلتها
بالموضوع والتزامها باتفاق التهدئة الأخير.
لفت الانتباه في العملية
ليس فقط المسارعة الإسرائيلية الى استثمار العملية لاجل تصفية حساباتها
مع اطراف المقاومة، ولكن ايضا حالة الاضطراب الشديد التي اصابت بعض
الاطراف العربية ذات الصلة في حين يفترض ان تلك الاطراف اقدر على تفهم
حالة الشعب الفلسطيني، ومن ثم اقدر على تلمس مدى الشعور بالمهانة والغضب،
الذي يمكن ان يلجيء أي فرد من ابنائه الى مثل هذا التصرف، المتوقع في أي
وقت وهي حالة ينبغي الا تستغرب، حيث يمكن ان تتكرر طالما بقي الاحتلال
مستصحبا معه مختلف تجليات الذل والظلم.
هذه الخلفية لا تبرر
العملية، ولكنها تدعو الى تفهم دوافعها، خصوصا ان السياسات الإسرائيلية
التي انطلت على اهل السياسة في الخارج لم تترجم بعد الى ممارسات مقنعه
للشعب الفلسطيني، الذي لم يشهد بعد أي مؤشر على انفراج حقيقي في الداخل،
يمتص بعض غضبه ويوفر له قدرا من الامل في المستقبل.
ذلك لم يحدث للاسف الشديد
حتى ان بعض الاطراف العربية بدت حريصه على تهدئة وارضاء الطرف الإسرائيلي
(والاميركي ضمنا)، بأكثر من حرصها على تفهم وتقدير الوضع الفلسطيني،
بالتالي فإن الضغوط التي مورست على قيادات «الجهاد» و«حماس» مثلا كانت
اضعاف الاشارات التي نبهت الى خطورة استمرار مظالم الاحتلال، الذي هو اصل
الداء ومصدر البلاء، والذي يفتح الابواب واسعة لتكرار مثل هذه الحوادث،
حتى في ظل التزام فصائل المقاومة بالتهدئة، ذلك ان الاسباب والموازنات
السياسية التي دفعت تلك الفصائل الى القبول بالتهدئة لا يتصور معها ان
تكون مصممة لكل شاب فلسطيني، ممن فقدوا الثقة في السياسة وأقنعهم القهر
الذي تقبلوا في ظله منذ ولدوا، بأن الحياة الذليلة لا تعاش، وانها والموت
سواء، خصوصا في الحالة الإسرائيلية التي يقترن فيها ايقاع الذل بانسداد
الافق واليأس من المستقبل، ذلك ان الموت الابدى يصبح عند البعض خلاصا
طبيعيا من الذل الابدي.