أكراد العراق يلعبون بالنار
2005-03-30
لم نتصارح بشكل كاف في التعاطي مع
الملف الكردي بالعراق، وصرنا نتعامل مع مفرداته بلغة
دبلوماسية، فيها من الغموض أكثر مما فيها من البوح
والوضوح، ومن المجاملة أكثر مما فيها من المكاشفة. وهو
ما يلاحظه المرء في الاخبار والتقارير اليومية التي باتت
تخرج من بغداد تارة، ومن السليمانية أو اربيل تارة اخرى،
متحدثة عن تعثر مفاوضات تشكيل الحكومة العراقية، وقائمة
طلبات الاكراد، التي يبدو ان ثمة تصعيدا فيها يستثمر
الاجواء المواتية، المتمثلة في انهيار الدولة العراقية
ووجود القوات الأمريكية، وغياب النظام العربي.
دعك الآن من الحديث عن شرعية اجراء الانتخابات في ظل
الاحتلال. او شرعية الحكومة المفترضة التي من الواضح
انها ستكون تمثيلا لبعض الطوائف في العراق، وليس للشعب
العراقي كله، لأن ما يهمنا في السياق الذي نحن بصدده هو
الموقف الكردي، الذي يعد أحد اهم معوقات تشكيل الحكومة،
جراء اصراره على طلبات يتعذر قبولها من جانب اي حكومة
عراقية.
ثمة لغط
كثير حول تلك الطلبات التي طالت الميزانية، وعدد وطبيعة
الوزارات التي ستكون ضمن حصة الشيعة، لكن ازعم ان اهمها
واخطرها طلبات ثلاثة هي ضم كركوك الى كردستان، والابقاء
على ميليشيات البيشمركة كجيش خاص بالاكراد، ثم اعتماد
صيغة الفيدرالية للمحافظات الكردية الثلاث.
لا يقف الامر عند ذلك الحد، وانما في الوقت الذي
تمارس فيه الضغوط القوية، التي لم تخل من تهديد وابتزاز،
فإن الخطوات التي يتخذها الاكراد على الارض، والتصريحات
التي تصدر عن قادتهم تكرس من مشاعر الشك والارتياب،
وتسحب من رصيد الثقة الذي يفترض توفره في اعقاب سقوط
النظام البعثي، لصياغة العلاقات الكردية العربية على نحو
ايجابي وحميم. ذلك ان عملية «اغتصاب» كركوك اصبحت تتم
بصورة يومية، بدءا من تهجير سكانها العرب والتركمان او
الاستيلاء على بيوتهم، وانتهاء بنقل ملكية الأراضي
الزراعية، ومرورا بوضع اليد على المؤسسات والاجهزة
الحكومية، وتنصيب اكراد على رأسها. وفيما يتم ذلك على
الارض فإن تصريحات زعماء الاكراد تعلن رفض رفع العلم
العراقي في كردستان (وكأنه علم صدام حسين وليس علم
الجمهورية)، كما تحذر من دخول الجيش العراقي إلى محافظات
الشمال من دون موافقة برلمان كردستان، الامر الذي يعني
ان القرار في كردستان هو شأن كردي في نهاية المطاف، وليس
للدولة العراقية فيه نصيب.
وهو مشهد يضعنا بازاء صورة عبثية مسكونة بدرجة عالية من
المفارقة. اذ في حين يعرض منصب رئيس الجمهورية العراقية
على الزعيم الكردي جلال طالباني. فإن علم الجمهورية
ذاتها يمنع في كردستان، وفي حين يفترض ان يمثل الرجل
بلاده في المحافل الدولية وفي اجتماعات القمة العربية،
فإن تعلم اللغة العربية يمنع في المناطق الكردية. وفي
الوقت الذي يرأس فيه طالباني الدولة العراقية فإن
«جماعته» في الشمال تعد العدة لتقسيم الدولة وضرب وحدة
التراب العراقي.
نعم، لا تكف بعض التصريحات الكردية عن نفي فكرة
الانفصال او الاستقلال، لكن ما يجري على الارض يشي بغير
ذلك تماما. وهي الحالة التي ينطبق عليها المثل العربي
الشهير الذي يقول «اسمع كلامك اصدقك، وأرى أمورك
استعجب»، مع فارق واحد، هو ان الشكوك تكاثرت بحيث ان
الكلام ذاته لم يعد قابلا للتصديق. وحتى اذا بات المرء
ذات ليلة مصدقا، فإنه ما ان يفتح عينيه على صحف الصباح
ويطالع اخبار العراق فيها، حتى لا يلبث الشك يعاوده
بقوة.
والأمر كذلك، فلعلنا لا نتعسف كثيرا اذا قلنا ان
الموقف الكردي الحقيقي لن تعبر عنه التصريحات «الوحدوية»
التي تنقلها وسائل الاعلام او الوسائل التي تحمل الى
زعماء الدول المجاورة، وانما لن يحسمه وينطق به سوى
الممارسة الحاصلة على الأرض. ومع كل الاهتمام لما يقال،
وللقائلين بطبيعة الحال، إلا ان اي كلام لن يوثق به ولن
يحمل على محمل الجد، إلا اذا صدقه العمل.
انني افهم جيدا معاناة الاكراد وازمة ثقتهم في
الآخرين، واكرر هنا ما سبق ان قلته من انني احد الذين
عاشوا الهم الكردي ودافعوا عن مظلوميتهم، ودعوا الى
انصافهم ووقف الجرائم التي ارتكبت بحقهم. لكنني ازعم ان
تلك الصفحة طويت في العراق بوجه اخص.
وعلى اكراد العراق ان يدركوا ذلك ومن ثم فعليهم ان
يطووا بدورهم صفحة الاحزان والمرارات.
ان محاولة الاستيلاء التدريجي على كركوك عن طريق تغيير
تركيبتها السكانية، باستجلاب آخرين اليها من خارجها، او
تهجير بعض سكانها، مؤشر لا يعبر عن حسن النية بحال.
وكذلك فإن الاصرار على اعتبار «البيشمركة» جيشا خاصا
بالاكراد، هو المسؤول عن حمايتهم، لا يعني إلا شيئا
واحدا هو ان القيادات الكردية تعتبر كردستان كيانا آخر
غير العراق، وهو موقف له دلالته السلبية، ورغم ان موضوع
«الفيدرالية» قد اقرته قوى المعارضة العراقية في السابق،
إلا انها لم تتفق على تفاصيل مضمونه، التي يراد لها الآن
من الناحية العملية ان تعطي الاكراد وضعا متميزا يعطيهم
حق «الفيتو» على اي قرار سيادي عراقي، هذه الخطوة اذا
تمت على النحو الذي يريده القادة الاكراد تفتح الباب
لشرور كثيرة تهدد وحدة الاراضي العراقية، وتثير فيها
الفوضى والاضطراب.
بكلام آخر، فإن مجمل التصرفات الكردية يعطي انطباعا
قويا بأن الذي يجري الآن ليس سوى تمهيد للانفصال. واذا
كان ذلك الانطباع مبالغا فيه، ويتحدث عن «السيناريو»
الأسوأ، فإن تغيير ذلك الانطباع او تصحيحه لن يتأتى
بإصدار تصريح صحفي، تبثه وسائل الاعلام، وانما لا سبيل
الى تحقيق تلك الغاية إلا باتخاذ موقف جديد على الارض
يهدئ الخواطر ويعيد الثقة التي اهتزت في الموقف الكردي.
لقد تطرقت الى ذات الموضوع من قبل، وقلت ان امام
الاكراد الآن احد حلين، احدهما حل «امثل» يوفر لهم الحق
في تقرير المصير، وتأسيس دولتهم المستقلة، تمهيدا
لاستعادة كيانهم الذي تفتت وتمزق في اعقاب الحرب
العالمية الاولى، وحل آخر «ممكن» يبقي على الاكراد ضمن
حدود الدولة العراقية، وفي ظله تتوفر لهم كل ظروف وحقوق
المواطنة، ويتمتعون بنوع من الحكم الذاتي يحفظ لهم
هويتهم وخصوصيتهم العرقية. وهو ما اعتبرته عملا ناقصا،
ودعوت الى القبول به، لأن من شأن التعلق بالحل الامثل ان
يشعل حريقا في المنطقة، ستكون آثاره وبالا عليها، وربما
كان الاكراد اكثر الخاسرين بسببه، ذلك ان استقلال
كردستان العراق، يمثل دعوة الى اعادة رسم خرائط المنطقة،
بما يشكل تهديدا للأمن القومي لتركيا ولايران وسوريا،
ولم يعد سرا ان تركيا مستعدة لأن تخوض حربا تستمر سنوات
للحيلولة دون انفصال الجزء الذي يسكنه الاكراد في
الاناضول، وقد اشرت الى تركيا بوجه اخص، لأن تعداد
الاكراد فيها يتراوح بين 10 و 12 مليون نسمة، كحد ادنى،
الامر الذي يعني في حقيقته ان القضية الكردية تركية أكثر
منها عراقية.
في دفاعي عن فكرة «الحل الناقص» استشهدت بالقاعدة
الاصولية والمنطقية التي تدعو الى القبول بالضرر الادنى
تجنبا لضرر آخر اكبر وافدح. وهي القاعدة التي تنطبق بشدة
على الملف الكردي، باعتبار ان بقاءهم في اطار الدولة
العراقية لا يلبي رغبتهم في تقرير المصير الذي يطمحون
اليه، لكنه اذا ما حفظ لهم كرامتهم وهويتهم، فإنه يجنبهم
ويجنب المنطقة بأسرها ضررا محققا من جراء اعادة رسم
خرائطها الجغرافية والسياسية، وما يستصحبه ذلك من شرور
لا حدود لها.
ما ادعو اليه ليس امرا شاذا او غريبا، فذلك هو وضع
البربر في شمال افريقيا والاذريين في ايران والاوزبكيين
في افغانستان. اذ بقيت تلك الجماعات كمواطنين في دول
اخرى غير وطنها الأم، او توزعت على اقطار عدة، مرتضية
العيش ضمن حدود الجغرافيا السياسية التي استقرت منذ عقود
ولم تجد في ذلك غضاضة، طالما وفر لها ذلك الوضع حق
المواطنة، وفي ظله احترمت هويتها ضمن النسيج العام.
ان ما تمارسه القيادات الكردية الراهنة ليس سوى لعب
بالنار، لم تحسب عواقبه جيدا، من حيث انه يتعلق بالاماني
والطموحات، متجاهلة حقائق الواقع المعقد وخرائطه، ووحدها
تلك القيادات القادرة على إطفاء تلك النار.
اخيرا، يلح عليّ سؤال هو: اين الجامعة العربية من ذلك
الخطر الذي يهدد دولة عضوا بها، ولماذا لا نرى سوى تركيا
في الساحة تعمل جاهدة للحفاظ على وحدة العراق؟