إلغاء الجهاد من المناهج
لن يحذفه من العقل الاسلامي
8
يناير 2002
اذا اردنا ان نغتنم
الازمة التي حلت بعد 11 سبتمبر/ايلول ونحولها الى فرصة لمراجعة ملف العمل
الاسلامي، فسنجد ان به امورا عدة تحتاج الى تصويب وإعادة نظر. ولا اخفي
انني استشعر حرجا في اطلاق تلك الدعوة الى المراجعة، لا لأنها تحتاج الى
مصارحة وجرأة في نقد الذات، فذلك شأن مقدور عليه، وإنما لأنها تتزامن مع
مطلب اميركي ملح لإجرائها، بأساليب اخرى، ولمقاصد اخرى، وهذا اسوأ ما في
الامر، وهو بُعد في المسألة ينبغي تحريره قبل اي دخول في الموضوع.
التبسيط بين الغرب والمسلمين
ثمة شيء غلط في المسلمين، وفي الثقافة الاسلامية السائدة، وربما في الاسلام
ذاته، هذه الفكرة الاساسية التي يعبر عنها اغلب المثقفين والسياسيين
الغربيين، خصوصا في الولايات المتحدة (البعض عندنا يرددها ايضا)، وهذا
الغلط في رأيهم هو الذي افرز المجموعة الانتحارية التي قامت بالهجوم على
نيويورك وواشنطن، ولكي لا تتكرر مثل هذه الكارثة ينبغي ان يصحح الغلط، وان
تجفف منابعه كيف؟
الاجابة نجدها مثلا في ما تسرب من انباء عن اعتمادات اميركية خصصتها واشنطن
لباكستان (مئة مليون دولار) لكي تراجع كتب الثقافة الاسلامية، وتحكم
السيطرة على المدارس الدينية، بحيث يعد ملف لكل استاذ وطالب. نجدها ايضا في
تلك الانباء الاخرى التي سبق ان نشرت نموذجا لها، ذلك الذي تمثل في مذكرة
قدمتها السفارة الاميركية في احدى العواصم العربية الى الحكومة المعنية ولا
نعرف ان كان قد قُدم نظير لها الى حكومات اخرى ام لا طالبت باتخاذ اجراءات
معينة لتقليص جرعة التعليم الديني، كان في مقدمتها اختصار ساعات تدريس مواد
الثقافة الاسلامية من 20 ساعة الى اربع ساعات فقط، وإعادة النظر في مضمون
المناهج التي تدرس، بحيث تخضع <<للتنقيح>> جنبا الى جنب مع الاختصار.
فكرة ان الغلط في جانبنا مسيطرة ايضا على الخطاب الاعلامي في الغرب، وقد
لفت نظري انني ما لقيت صحافيا اجنبيا خلال الاسابيع الاخيرة الا وسألني عن
الجهود التي تبذل <<لتحديث الاسلام>> بعد احداث سبتمبر/ ايلول، وأدركت مما
سمعت انهم يفكرون في المسألة على النحو الآتي: طالما ان الذين قاموا
بالهجوم على الاهداف الاميركية من <<الاصوليين المسلمين>> والاصولية في
مفهومهم معادية للحداثة ولما كان من غير الممكن التراجع عن الحداثة وإعادة
عجلة التاريخ الى الوراء، فثمة حل وحيد للإشكال هو: ان يتم تحديث الاسلام
ذاته، الامر الذي يحل العقدة ويفض الاشتباك.
المنطق مسكون بالتبسيط المخل، ويعبر عن درجة عالية من سوء التقدير والفهم
تعرضت لها في كتابات اخرى، لكن اسوأ ما فيه هو قصور النظر الذي لا يرى
المشكلة والغلط الا في الجانب المتعلق بالمسلمين وحدهم، وهو ذات القصور
الذي يقع فيه بعض المسلمين حيث يعجزون عن نقد انفسهم، ويرون الغلط في الغرب
وحده، او في سياسته ان شئت الدقة، وفي الوقت نفسه يبرئون انفسهم من كل
عيب.
علاج التطرف بتطرف آخر
في شتاء عام 82 تمرد جناح من جماعة الاخوان المسلمين في مدينة حماه ضد
الرئيس السوري حافظ الأسد، واشتبك اعضاؤه بالسلاح مع <<سرايا الدفاع>>
التابعة للدولة، فرد الرئيس الأسد بدك المدينة جوا وبرا. وبدعوى استئصال
ذلك الجناح المتمرد من الاسلاميين، دعا عدد من القيادات في حزب البعث الى
اغلاق المعاهد الدينية، التي اعتبرت ضمن ينابيع ذلك التيار، وعلم بالأمر
الشيخ احمد كفتارو مفتي سوريا، الذي سمعت منه القصة، فذهب للقاء الرئيس
الأسد وعبر له عن تحفظه ازاء تلك الخطوة المقترحة. ومن بين ما قاله ان
اغلاق المعاهد سيؤدي الى زيادة التطرف وليس الى تقليصه، لأن المعاهد وهي
قائمة تحت اعين الدولة يمكن ضبط وترشيد ما تقدمه من ثقافة اسلامية، لكن
اغلاقها سيدفع الشباب الى البحث عن تلك الثقافة من منابع اخرى غير مأمونة،
ولا يتاح للدولة دائما ان تكون على علم بما يجري فيها، لأنها ستتحرك في
الظلام، وستكون بعيدة عن اعينها. ذلك فضلا عن ان قيام الدولة بإلغاء
المعاهد الدينية يسيء اليها ويوحي بأن الدولة لها موقفها الرافض للدين او
الساعي لإضعافه بين الناس، الامر الذي يعمق من اسباب التوتر في علاقة
السلطة بالمجتمع.
هذا المنطق اقنع الرئيس حافظ الأسد بأهمية الإبقاء على المعاهد الدينية،
الأمر الذي ادى الى استبعاد فكرة اغلاقها.
اسوق هذه الفكرة لتبيان خطورة علاج التطرف بتطرف اخر في الاتجاه المعاكس،
وللتنبيه الى ان اضعاف التدين لا يحل مشكلة التطرف، الذي هو في شق منه احد
ثمار ذلك الاضعاف، وإنما ترشيد الفكر الديني وتشجيع مدارس وتيارات
الاعتدال، هو الذي يحصن الناس ضد الوقوع في براثن التطرف. فإلغاء الجهاد من
المناهج الدراسية مثلا لن يحذفه من العقل الاسلامي، لكن وضعه في اطاره
الصحيح هو الكفيل بالحيلولة دون اساءة فهمه او توظيفه. وفي التجربة
الايرانية نموذج طيب في هذا الصدد، تمثل في انشاء وزارة خاصة للتنمية
الريفية اطلق عليها اسم <<جهاد البناء>> الامر الذي وضع القيمة في سياق
ايجابي للغاية، في ظروف مجتمع غير خاضع للاحتلال، ولا يحتاج الى الجهاد في
صورته القتالية، كي يدافع عن نفسه ويستخلص حقه.
المراجعة والمسؤولية
ثمة دعوة للمراجعة تبطن محاولة لإضعاف التدين وتهميش دوره في الحياة، وأخرى
تستهدف التصويب واسترداد العافية، وتفعيل دور الدين وترشيد اسهامه في صياغة
الحياة. والفرق بين المقاصد في الحالتين كالفرق بين الإماتة والإحياء،
وأرجو الا اكون بحاجة الى تبيان المربع الذي تقف فيه المراجعة التي ادعو
اليها.
وإذ اذكر بضرورة ان يراجع كل طرف موقفه ويعيد تقويم سياسته، بحيث يدرك حصته
من المسؤولية عما جرى، فأنني اخص بالذكر اطرافا ثلاثة هي: الانظمة المسؤولة
عن ادارة المجتمعات العربية، ودعاة المشروع الاسلامي بمختلف فصائلهم، ثم
واضعو السياسات في العواصم الغربية، خصوصا في الولايات المتحدة، التي اصبحت
اكثر دولة مرفوضة شعبيا في العالم. (الفيلسوف اليهودي الاميركي نعوم
تشومسكي يقول انها اكثر دولة ارهابية).
وضعت الانظمة السياسية في المقدمة، لأنها بحكم مسؤوليتها عن ادارة كل مجتمع
قادرة بحس الادارة على ان تستنهض المجتمع وتستخلص منه افضل ما فيه، وبسوء
الادارة تستخلص منه اسوأ ما فيه. ذلك ان الافكار والقيم السائدة لا تتخلق
او تتحرك في فراغ، ولكنها تتأثر سلبا وإيجابا بمجمل التحولات السياسية
والاجتماعية المساندة في كل مجتمع. اذ حين تنبت تربة ما الشوك والحنظل بغير
توقف في ظروف معينة، فالقضاء على تلك النباتات لا يكفي، وإنما يتطلب الامر
ايضا تحليل التربة لمعرفة التحولات التي طرأت عليها، وطبيعة البذور التي
القيت فيها.
عند التربويين الاميركيين نظرية تقول انه اذا تكرر رسوب بعض الطلاب في احدى
المواد، فينبغي مساءلة المدرس وليس الطلاب، لأن ذلك معناه انه لم ينجح في
ان يستخلص من الطلاب افضل ما فيهم، فجاءت نتيجة تقاعسه على ذلك النحو.
والأمر كذلك، فمن المهم للغاية في سياق المراجعة المنشودة، ان يجيب
المعنيون بإدارة المجتمعات العربية بصراحة وشجاعة عن السؤال الآتي: لماذا
اصبحت بعض تلك المجتمعات <<طاردة>> لبعض ابنائها، الذين اصبحوا بمضي الوقت
عربا افغانا او البانا او غير ذلك، ولم يعودوا عربا عرب؟.. بكلام اخر:
لماذا فضلت تلك الالوف المؤلفة من الشباب العربي، ان تتشرد في بلاد الدنيا،
وان تعاني من اهوالها، وتغامر بالانخراط في انشطة العنف والارهاب، ولم تفكر
في العودة الى اوطانها، ولماذا لم يعد بعضهم يعود الى وطنه الا مخفورا او
في تابوت خشبي؟
اننا اذ نأخذ على الولايات المتحدة استعلاءها واستكبارها على المراجعة ونقد
الذات، فإننا لا نستطيع ان نطالبها بذلك او نأخذ عليها تقاعسها فيه، ما لم
نطالب الانظمة العربية بإجراء تلك المراجعة، ومن ثم العمل على معالجة
القصور او سد الثغرات التي اسهمت في ايصال الامور الى ما وصلت اليه.
السلفيون
في مراجعة ملف الطرف الاسلامي يتعين التفرقة بين دائرتين او معسكرين: معسكر
المتطرفين الذين يركنون الى العنف الفكري (التكفير) او العنف المادي
(السلاح) في محاولة تغيير الواقع، ومعسكر المعتدلين الذين انحازوا الى مبدأ
التغيير السلمي او حصروا انشطتهم في العمل الدعوي. وقبل ان نطل على
الفريقين ينبغي ان نعترف بأن التطرف لم يجد له موطئ قدم، ولم يثبت له حضور
ولم يتمدد على خرائطنا، الا في اجواء الفراغ الذي نشأ عن حجب الاعتدال. ذلك
ان للناس اشواقا ايمانية لا بد ان تلبى، والمجتمع بخير طالما نهضت بتلك
المهمة استجاباته الطبيعية والمعتدلة، اما اذا صودرت تلك الاستجابات او
قمعت، فسوف تلبي تلك الاشواق استجابات اخرى تتحرك في الخفاء، وتتعامل مع
مرحلة القمع بالفكر المتعدي الذي يناسبها.
ان الفكر السلفي بمفهومه الاصطلاحي الحديث لم يعرف له طريقا الى مصر مثلا
الا حينما صودرت حركة جماعات الاعتدال وجرى اضعاف الازهر، ووجد فيه بعض
الشبان الذين خرجوا من معاناة السجون في السبعينات ذخيرة اغترفوا منها
افكار التفسيق والجاهلية والتكفير وكراهية غير المسلمين، وهي الالغام التي
تفجرت في وجوه الجميع في وقت لاحق.
ولا مفر من الاعتراف ايضا بأن اخطر تحول حدث في الساحة الاسلامية، المصرية
على الاقل، هو ذلك الذي وقع في السبعينات، في ظروف تحتاج الى دراسة، حيث
دفع السلفيون بفكرهم الذي يستسهل التكفير تحت وطأة الضغوط الامنية الى
التحالف مع الانقلابيين الذين لجأوا الى السلاح والعمل السري (اقصد الجماعة
الاسلامية وحركة الجهاد). وكان قتل الرئيس السادات من ثمرة ذلك التحالف، ثم
تبلورت صيغته اخيرا في تنظيم <<القاعدة>> الذي قاده سلفي (اسامة بن لادن)
مع رمز انقلابي هو الدكتور ايمن الظواهري.
المشهد الافغاني الاخير جاء اعلانا عن بؤس وفشل ذلك التحالف. المئات او
الآلاف الذين توزعت جثثهم المتفحمة والمشوهة بين قلعة جانجي وكهوف تورا
بورا، والذين سحلوا منهم في كابول ومزار شريف، والذين عاشوا منهم اصبحوا
مطاردين او معوقين، ناهيك عما اصاب زوجاتهم وأبناءهم من تشرد وقهر، ذلك
المصير فيه درس وعبرة، وهو بمثابة اشهار افلاس النهج السلفي الانقلابي. وهو
المشروع الذي يتحمل دعاته امام الله وزر افناء وتدمير مستقبل اجيال من
الشباب النادر، الذي كان يمكن ان يخدم قضيته وأمته على نحو افضل بكثير، لو
ان عطاءه وطاقاته وظفت في الاتجاه الصحيح.
الضجيج واللافتات
من اسف ان التطرف اصبح الأكثر حضورا في الساحة الاعلامية، لا بسبب حجمه او
قوته في الشارع العربي، لكن لما يثيره من ضجيج وما يسببه من فواجع، وما
يسلط عليه بالتالي من اضواء. ويتضاعف الأسف حين يلاحظ الباحث ان الاهتمام
بالتطرف يستصحب تجاهلا وعدم اكتراث بالاعتدال. وبسبب هذا الخلل في الموازين
انقلبت الامور، وتصور البعض ان التطرف هو الأصل وان الاعتدال استثناء عابر،
وان اسامة بن لادن هو الممثل الشرعي الوحيد للمشروع والحلم الاسلاميين.
ولا نزعم ان الاعتدال لا يزال هو الاصل في العالم العربي والاسلامي، وهو
الاقرب الى طبائع المسلمين وفطرة البشر بوجه عام، فلعلي لا ابالغ اذا قلت
ان نشطاءه احوج الى الرعاية وأجدر بالاهتمام، وفي مراجعة ما يخصهم في ملف
العمل الاسلامي يلحظ المرء امورا عدة منها:
- انهم شغلوا بما سمي بالاسلام السياسي، بأكثر مما شغلوا بوجهيه الاجتماعي
والحضاري. ولست هنا ادعو الى اخراج الشأن السياسي من المعادلة، لكني اتحدث
عن ترتيب اولويات المشروع، ناهيك عن مقتضيات الحكمة وحسن التقدير، ولا بد
هنا من التذكير بأن بناء الدولة الاسلامية في العصر النبوي لم يقم الا بعد
عشر سنوات امضاها النبي عليه الصلاة والسلام في مكة، وهو وضع الأساس
الايماني والقيمي والحضاري.
ولست اتردد هنا في القول بأن قطاعا عريضا من النشطاء الاسلاميين في زماننا
استغرقهم العمل السياسي، وتطلعوا الى تغيير المجتمع من قمته، في حين تراجع
لديهم الاهتمام بالقيم الاخلاقية والحضارية. ومن تجارب عدة ثبت ان التغيير
الفوقي هو محاولة عبثية لإقامة بناء بغير اساس، وحين يتعلق الامر بالبنيان
الاسلامي بوجه اخص، الذي قوامه الهداية ومكارم الاخلاق، فان غض الطرف عن
ذلك الاساس يعد جريمة في حق المشروع.
ان قليلين هم الذين يقدمون انفسهم بالخلق الكريم والصدق والوفاء والاتقان
والنظافة واحترام الاوقات والمواعيد، بينما تؤثر الاغلبية ان تعلن عن نفسها
بالصياح والضجيج واللافتات والإسراف في المظاهر الايمانية.
- الذين شغلوا بالعمل السياسي، ووقعوا في خطيئة استهداف تغيير السلطة قبل
تغيير المجتمع، ارتكبوا خطأ اخر، هو انهم تعلقوا بالهدف النهائي، في عجلة
غير حميدة، ولم يحسنوا التعامل مع نهج التدرج والاهداف المرحلية، فمدوا
بصرهم الى الاقصى، من دون ان يكلفوا انفسهم عناء البدء بالأدنى، والتقدم
منه لبلوغ النموذج المطلوب. فألحوا مثلا على تطبيق الشريعة، وجعلوه عنوانا
كبيرا لأنشطتهم، من دون ان يشغلوا انفسهم بالدفاع عن الحرية والديموقراطية
وحقوق الانسان، والاولى هدف نهائي قد تختلف بعض عناصر النخبة حوله، بينما
الثانية هدف مرحلي لا يكاد يختلف عليه احد.
- انهم في العمل العام قدموا الولاء للجماعة على الولاء للقيمة، فحرصوا على
ان يتخندقوا في دوائرهم ويعملوا مع نظرائهم، الامر الذي ادى الى مفاصلتهم
للاخرين، ولم يمكنهم من الوقوف على المشترك الذي يقاسمهم غيرهم فيه، فظلوا
يتحركون على صعيد فئوي، ولم يحسنوا مد الايدي لغيرهم، والعمل على المستوى
الوطني في الدفاع عن القيم والمقاصد العليا للمجتمع، وكانت النتيجة انهم
شغلوا بانتصار الحركة او الجماعة، ولم يكترثوا بارتقاء الامة.
ادري ان هذا الكلام ليس ما يريده الاميركيون، وليس مما يرحب به النشطاء
الاسلاميون المنخرطون في جماعات عاملة بالساحة، ولكنها محاولة للتعامل مع
الملف من وجهة نظر ليست معنية بإسعاد هذا الطرف او ذاك، وإنما ترى ان
المجاملة في مثل هذه الامور جناية على الحاضر والمستقبل، ناهيك عن اننا اذا
لم نغير من انفسنا ونصحح اخطاءنا فسنشهد ان هناك من يتربص لكي يفرض علينا
التغيير الذي يراه ملبيا لأهدافه ومصالحه.