الإحتلال
الأجنبي وعملائه
استقووا بالشعوب
لا عليها!
د.
فيصل القاسم
تقول إحدى
النكات الساخرة من العجز والهوان العربيين إن رئيساً
أمريكياً اتصل ذات مرة بزعيم عربي أثناء انعقاد مؤتمر
القمة في إحدى الدول العربية. وقد لاحظ الزعماء العرب
الآخرون الذين كانوا جالسين إلى جوار ذلك الزعيم أنه لم
ينطق خلال المكالمة الهاتفية مع الرئيس الأمريكي إلا كلمة
"نعم" نعم، نعم،نعم، نعم، نعم، بشكل متكرر، لكنهم لاحظوا
أيضاً أنه تجرأ خلال المكالمة ولفظ فجأة كلمة "لا"،
فأعجبوا أيما إعجاب بشجاعته الفائقة، والنادرة، وعنفوانه
الشديد، وبأسه العتيد، فسألوه: "كيف تجرأت على أن تقول
"لا" للرئيس الأمريكي"، فأجابهم الزعيم العربي: "لقد
سألني سيادتة أطال الله في عمره وعمر الذين خلفوه
وسيخلــّفهم: ألم تتعب من قول كلمة نعم؟ لقد كررتها لي
أكثر من خمسين مرة حتى الآن، فقلت له: "لا" لم أتعب يا
سيادة الرئيس. هذا كل ما في الأمر".
وقد ذهب
الفنان القطري غانم السليطي في التهكم على ضعف الأنظمة
العربية أبعد من ذلك، فقد قدم في إحدى مسرحياته الكوميدية
مشهداً يصور عدداً من وزراء الخارجية العرب في اجتماع لهم
في الجامعة العربية. وبينما كان "السادة" الوزراء يتناقشون
فيما بينهم وإذا بجرس الهاتف يرن، فرد عليه أحدهم، لكنه
سرعان ما أغُمى عليه، فأخذ السماعة وزير آخر، لكنه سرعان
ما فقد السيطرة على أعصابه، فتركها مرعوباً. أما بقية
المجتمعين فقد صورهم السليطي في وضع محرج للغاية، حيث لم
يستطيعوا التحكم بوظائفهم الفيزيولوجية أثناء المكالمة. كل
ذلك نتيجة اتصال هاتفي من وزيرة الخارجية الأمريكية التي
كانت على الطرف الآخر من الخط في واشنطن.
لماذا أصبحت
الحكومات العربية أكثر حكومات العالم خضوعاً وخوفاً من
السيد الأمريكي؟ لماذا لا تستطيع أن ترفض له طلباً؟ لماذا
تخضع لضغوطه وتدخلاته بلمح البصر؟ لماذا لا تستطيع أن تقول
له "لا" ولو على سبيل المزاح؟ لماذا ترتعد أوصالها من مجرد
سماع صوته؟ لماذا تنهار عزائمها من مكالمة هاتفية من البيت
الأبيض؟ السبب بسيط جداً: لأن ليس لها أي سند شعبي في
بلدانها يمكن الاعتماد عليه في مواجهة الخارج، فأصبحت
عبداًً ذليلاً للأجنبي؟
معظم دول
العالم تستند إلى قواعد شعبية صلبة تحميها وتدافع عنها
وتذود عن حماها. معظم حكومات العالم دوائرها الانتخابية
داخلية، بمعنى أنها مختارة ومدعومة من شعوبها. أما معظم
الأنظمة العربية فدوائرها الانتخابية خارجية بكل أسف، حتى
تلك التي تدّعي "الاستقلال الوطني"، فهي مختارة خارجياً
رغم كل أكاذيبها الإعلامية وعنترياتها المفضوحة والمخصصة
للاستهلاك المحلي، وبالتالي عليها أن تخدم ناخبيها
الخارجيين أكانوا في البيت الأبيض أو في الكنيست
الإسرائيلي أو في عشرة داوننغ ستريت أو في قصر الإيليزيه
أو في أي مكان ذي نفوذ عالمي.
معظم حكومات
العالم تخشى من شعوبها لأن الأخيرة هي التي ترفعها إلى سدة
الحكم، وهي التي تنزلها من خلال انتخابات حرة ونزيهة. أما
عندنا فأنظمتنا تخشى فقط من الذين يدعمون بقاءها من
الخارج، ولا تخشى من شعوبها أبداً، لأنها جاءت إلى الحكم
عن غير طريقها، وهي بالتالي ليست مدينة لها بأي شيء، أو
مسؤولة أمامها.
معظم دول
العالم تستقوي بشعوبها وأوطانها على الآخرين إلا أنظمتنا
العربية، فهي تستقوي بالخارج على الداخل أو بالأجنبي على
المواطنين، وهو ما لم يحدث في أسوء حقب التاريخ. معظم
زعماء العالم يتسلحون بشعوبهم لمواجهة الضغوط الخارجية إلا
حكوماتنا العربية، فهي أسقطت الشعوب من حساباتها تماماً،
لا بل إن الكثير منها يعرض خدماته على الخارج أو يتواطئ
معه لقمع الشعوب وإذلالها وإبقائها تحت النعال، وكأن هناك
اتفاقاً سرياً بين أنظمتنا ورعاتها الخارجيين يقضي تحديداً
بتضييق الخناق على الشعوب مقابل حماية حكوماتنا وإبقائها
على عروشها. وكم كان بعض الحكام العرب يتفاخر أمام سادة
البيت الأبيض بأنه وضع شعبه في جيبه. وقد أكد هذا الكلام
وزير الخارجية الأردني الأسبق حازم نسيبة الذي قال بالحرف
الواحد إنه سمع زعماء عرباً كثيرين وهم يطمئنون الأمريكيين
من أن لا عليهم من الشعوب العربية، فهي تحت السيطرة وفي
الجيب الصغير.
ليس صحيحاً
أبداً أن الأنظمة العربية جبانة بالفطرة وتموت من الخوف من
شيء اسمه أمريكا. لا أبداً، فهي تعرف تماماً ماذا تفعل
وماذا تريد. صحيح أنها تبدو كلاعبي السرك وشخوصه الأخرى ما
أن تسمع ضربة سوط المدرب حتى تنفذ أوامره بحذافيرها، فتمشي
على الحبال، وتقوم بحركات بهلوانية غريبة عجيبة، لكنها
ليست مغلوبة على أمرها كما يتصور البعض، بل إن العديد
منها اختار بمحض إرادته أن يكون لاعباً في سيرك يديره
الآخرون دون أن يعلم أن الارتهان للشعب أسهل وأقل كلفة
بعشرات المرات من الارتهان للأجنبي. لكنها مع ذلك تختار
الطريق الأصعب. لا أدري لماذا يخجل الحاكم العربي من
النزول عند رغبة الشعب، بينما لا تهتز له شعرة خجل واحدة
عندما ينبطح كالمجند الـُغر أمام السيد الأجنبي؟
لماذا لا
تتعلم أنظمتنا العربية من تجارب الآخرين وتتعظ بها؟ لماذا
استطاع النظام التركي مثلاً أن يمنع عبور القوات الأمريكية
عبر الأراضي التركية لمهاجمة العراق؟ لأنه كان مسلحاً
بأغلبية برلمانية ساحقة كانت ترفض ذلك رفضاً قاطعاً.
والبرلمان في البلدان التي تحترم نفسها وتحترم شعوبها يمثل
رأي الشعب ومواقفه. فلو كان النظام التركي نظاماً غير
مسنود شعبياً لامتثل للضغوط الأمريكية بسرعة البرق، لكنه
قال لهم "لا" بالفم الملئان. وهكذا فعلت الفيلبين عندما
ضربت بالضغوط الأمريكية عُرض الحائط وسحبت قواتها من
العراق. لقد فعلت ذلك تحت الضغط الشعبي واستجابة له، وكانت
أكثر خوفاً على نفسها من شعبها منه من الأمريكيين، لأنها
مسؤولة أمامه. ولا ننسى أن الحكومة الإسبانية كانت أول من
استجابت للضغط الشعبي وسحبت قواتها من العراق. ولم يستطع
الأمريكييون معاقبة الحكومات الفيليبينية أو التركية أو
الإسبانية بل قبلوا قراراتها مجبرين. لماذا لم يحاولوا
ابتزاز تلك الحكومات؟ لأن الأمريكيين يعرفون أن وراءها
رأياً عاماً وقوى شعبية عظيمة تستطيع أن تحميها وتقيها شر
الضاغطين.
إن من الصعب
جداً تخويف وابتزاز حكومات منتخبة شعبياً ولها سند داخلي.
ومن السهل جداً ابتزاز الأنظمة العربية لأنها بلا سند شعبي
داخلي. كيف لا وهي مفروضة على الشعوب بقوة الحديد والنار،
وجاءت رغماً عن أنوف الجماهير. لهذا السبب نرى الإدارة
الأمريكية هذه الأيام تأخذ كل ما تريد من الحكومات العربية
دون استثناء لأنها تعلم جيداً أنها حكومات ضعيفة لا تمثل
إلا نفسها. والحكومات ذاتها تعي أن الود مفقود تماماً
بينها وبين الشعوب، لهذا فهي تطأطأ رؤوسها بسهولة أمام
الغرباء، وتقدم لهم كشوفات حتى بسكاكين المطابخ وملاعقه،
فما بالك بأسلحتها السرية. وبالرغم من أن بعض الحكومات
العربية تتفاخر بدعم جماهيرها لها في وسائل الإعلام، إلا
أنها في واقع الأمر تعرف أنها تكذب على نفسها، ولو كانت
تحظى بعشرة بالمائة من دعم الشعب لما انبطحت كالشاة
المذبوحة أمام الطلبات الأمريكية التعجيزية.
متى تتعلم
الأنظمة العربية أن ملاذها الأخير هو شعبها لو أحسنت
معاملته وتحالفت معه، فهو الذي يستطيع أن يصد عنها الغزاة،
ويحمي كرامتها إذا ما تعرضت لسوء. هل انتبه بعض الزعماء
العرب المنبوذين من شعوبهم إلى التجربة الفنزويلية؟ لقد
حاولت أمريكا بكل جبروتها وأجهزتها الرهيبة النيل من
الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، ورتبت له كل أنواع الخوازيق
والمقالب والمؤامرات، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في إزاحته،
وهو الذي يحكم بلداً يقع في حديقتها الخلفية. ففي المرة
الأولى رتبت له انقلاباً كبيراً، فأعاده الشعب إلى الحكم
خلال أيام. ثم حاولت أن تقصيه عن سدة الحكم من خلال
التلاعب بالانتخابات الفنزويلية، لكن الشعب قال كلمته
وانتخب شافير بأغلبية ساحقة وليس بنسبة تسعة وتسعين
السخيفة المفبركة في أقبية وزارات الداخلية العربية. ولو
كان الرئيس الفنزويلي مثل بعض الزعماء العرب وأراد
الأمريكيون التخلص منه لكان قد طار من منصبه في ليلة
ليلاء، وأصبح الآن مزروباً في أقبية قصوره.
وما دام
الحاكم العربي غير منتخب شعبياً عبر عملية ديموقراطية
حقيقية سيبقى "ملطشة للي يسوى وما يسواش". فقيمة أي حاكم
من قيمة شعبه، ولا قيمة لأي زعيم إذا كان شعبه مهاناً
ذليلاً جائعاً فقيراً يئن تحت نير القمع والفاقه وأنياب
كلاب الصيد، كما سماهم الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي،
وقصد بهم طبعاً أجهزة القمع والمنع. فلماذا تسير الأنظمة
العربية ضد منطق التاريخ والإنسانية؟ أليس حرياً بها أن
تتقرب من شعوبها وتلتحم بها فعلياً وتكون منها وإليها
بدلاً من أن تكون منها لكن في خدمة الغير؟
فيصل
القاسم
و
... أخيرا عثر
اليهود على "فلسطينيي"
"محمود عباس"
مقبول للتفوض معه! فلتبدأ المفوضات إذن...
وها هي"مفاوضات
الشالوم"
قد بدأت ...
في
جو من الحب المتبادل...
والإعلام اليهودي يقوم بتسويقها...
و"العدو
المشترك" - كما قالت
وزيرة خارجية
إسرائيل - هو الإسلام و المسلمين...
|
|
المقاومة والإعلام
أنا أقاوم إذن أنا إرهابي!
د.
فيصل القاسم
لا أدري إذا
أنفجر ضاحكاً أو أصرخ باكياً أو ألوذ ساخراً من هذا
الاستهبال والاستحمار الأمريكي الفظيع لإنسان القرن الحادي
والعشرين وبالتحديد الإنسان العربي، ففي الوقت الذي تفضلت
فيه أمريكا مشكورة بإطلاق ثورة المعلومات وتحطيم الحدود
الإعلامية وجعل هذا العالم قرية صغيرة من خلال الانترنت
والأقمار الصناعية وأجهزة الاتصالات العجيبة والقنوات
الفضائية العابرة للقارات نجد أنها في الوقت نفسه تحاول أن
تزيف أبسط الحقائق الإنسانية والموضوعية فيصبح اللون لأبيض
أسود والأخضر أصفر والبرتقالي أزرق في الخطاب السياسي
والإعلامي الأمريكي الذي يردوننا أن نصدقه ونبصم عليه
بالعشرة، وكأن أمريكا تقول لنا إنها لم تخترع وسائل
الاتصال الحديثة لبث الوعي وتحرير عقول سكان المعمورة من
الخرافات والسخافات بل كي تسخّرها لتزييف البديهيات وتحوير
المسلمات والتلاعب بالفطرة البشرية.
آه كم كنا نحسد
الأمريكيين والبريطانيين على تفكيرهم المنطقي السليم
ومنطقهم القويم، فكنا وما زلنا نضرب المثل بما يسمونه في
بريطانيا وأمريكا الـ (common sense) أي الفطرة السليمة
التي تقوم على الفهم الفطري للأمور دون اللجوء أو العودة
إلى النظريات والفذلكات. لا بل إن القضاة والمحامين
البريطانيين غالباً ما يعتمدون على حسهم الإنساني العام في
الحكم على بعض القضايا المطروحة أمامهم ويضربون بالقوانين
الموضوعة عرض الحائط. لهذا السبب أشعر بحزن شديد وأنا أرى
كيف يقلب حكام بريطانيا وأمريكا أبسط الحقائق البديهية
رأساً على عقب في زمن السموات المفتوحة والقرية الكونية.
فكل من يحمل السلاح في وجههم في العراق دفاعاً عن تراب
وطنه مثلاً هو إرهابي ابن إرهابي بالرغم من أن تلاميذ
المدارس لا يصدقون هذه النكتة السمجة فما بالك باليافعين.
لا أدري
لماذا تبخرت الفطرة السليمة لدى أحفاد الأنغلو ساكسون بهذه
السرعة الرهيبة. لنفترض أن مواطناً بريطانياً أو أمريكياً
بسيطاً كان يعيش سالماً آمناً في بيته الوادع فإذا بلص
مدجج بالسكاكين والهراوات والجنازير الحديدية يدق باب بيته
ثم يخلعه ويقتحم المنزل عابثاً بكل ما يقع تحت يديه من
مقتنيات نفيسة ثم يستولي على البيت ويأمر صاحبه بالجلوس
تحت تهديد السلاح في إحدى زواياه. ماذا تتوقع من صاحب
المنزل المغدور في هذه الحالة؟ هل تريده أن يستسلم للحرامي
اللعين وأن يهادنه ويصادقه ويتودد له ويقبل يديه امتناناً
له على فعلته الكريمة، أم تريده أن يدافع عن بيته البسيط
حتى بأسنانه وملاعق المطبخ؟ هذا هو المنطق: أن يبدأ صاحب
البيت بالمقاومة. لكن بدلاً من التسليم بهذه البديهية نرى
اللص يتهم مالك المنزل المعتدى عليه بأنه إرهابي ومخرب
ومارق وسافل لمجرد أنه أخذ يدافع عن بيته وكرامته. وتتحول
القصة بأكملها من قصة إنسان تم الاعتداء عليه وعلى
ممتلكاته إلى قصة أخرى تماماً لا علاقة لها أبداً بلب
المشكلة. فبدلاً من أن ينصّب التركيز على جريمة اللص
البشعة يبدأ الأخير بتحويل الأنظار إلى صاحب المنزل الذي
يصبح دفاعه عن بيته إرهاباً ملعوناً حسب رأي اللص! هل
القضية المطروحة هنا، يا جماعة الخير، قضية مالك المنزل
الذي يكيل له الحرامي شتى أنواع الشتائم والاتهامات أم
قضية لص مارق حقير يحاول التغطية على جريمته النكراء
بتلفيق تهم هزيلة للضحية؟ إنه منطق مضحك حقاً لا بل يجعلنا
نموت من الضحك.
هذا هو منطق
المحتل الأمريكي في بلاد الرافدين، فقد حول قضية احتلاله
وتدميره ونهبه للعراق إلى قضية إرهاب. والمضحك في الأمر
أنه كان منذ البداية يعزو أعمال المقاومة إلى جهات أجنبية
كتنظيم القاعدة ومتسللين غرباء كما لو أن الشعب العراقي
قابل بذله وليس لديه أي نية للمقاومة. وهو يريد من الجميع
الآن أن يخرسوا وينسوا جريمة الاحتلال والغزو وأن يدينوا
أي عراقي يفكر أو يحاول أن يقاوم المحتل. يا للمنطق
السليم! والويل كل الويل لمن يعارض الاحتلال. فما أن
يتململ الشعب العراقي قليلاً كي يسأل عما حل ببلاده من
خراب ودمار على أيدي الغازي الأمريكي حتى تثور ثائرة
المحتل واصفاً العراقيين بأقذع الألفاظ ومهدداً كل من
يؤازرهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، فحتى اللذين يكتبون
مقالاً ضد الاحتلال يصبحون إرهابيين فوراً وتـُقفل صحفهم
وتـُكسر أقلامهم وربما تـُقطع ألسنتهم. وإذا تجرأت وسيلة
إعلام ونقلت جرائم المحتل فتصبح بقدرة قادر إرهابية
بامتياز وجب إخراسها وقصفها بما لذ وطاب من أسلحة الإبادة
الأمريكية الغراء! لا يستحي الرئيس الأمريكي وأركان إدارته
أبداً وهم يصفون العمليات التي تجري ضدهم في العراق بأنها
أعمال إرهابية مشينة، ويساعدهم في ذلك إعلام أمريكي وآخر
مرتزق غـُسل دماغه تماماً وراح يسمي الأشياء بغير
مسمياتها.
كيف يختلف هذا الإعلام الذي تباركه الإدارة
الأمريكية وتدعمه عن آلة الدعاية التي كان يديرها غوبلز
وزير إعلام هتلر الذي كان يقول لصحفييه: "اكذبوا ثم اكذبوا
حتى تصدقوا أنفسكم"؟ وهكذا حال الإعلام السائر في فلك
الاحتلال، فهو كذب حتى صدق الكذبة. إنه أبشع من الإعلام
النازي لأن النازيين كانوا يراهنون في ذلك الوقت على سذاجة
الشعوب وضعف وسائل الإعلام لتمرير أكاذيبهم. أما الآن
فالأخبار تصل إلى أقاصي المعمورة بسرعة الصوت بفضل
التكنولوجيا المعلوماتية الأمريكية الجميلة مما يجعل الناس
أكثر وعياً والإعلام الكاذب أقل قدرة على ترويج الأباطيل.
وقد شاهدنا كيف استطاع موقع بسيط للإنترنت أن يفضح كل
الأكاذيب الرئاسية الأمريكية عندما نشر صوراً لتوابيت
الجنود الأمريكيين المشحونة عبر مطار الكويت إلى أمريكا
هذا في الوقت الذي كان يتستر فيه الأمريكيون على عدد
قتلاهم. لقد قال الصحفي البريطاني الشهير روبرت فيسك: "إذا
انتقدت الاحتلال الأمريكي فأنت عميل لصدام وإذا قاومته
فأنت إرهابي وإذا تحدثت عن إسرائيل فأنت معاد للسامية."
هذا هو المنطق الأمريكاني.
ومما يبعث
على القرف والقشعريرة أن الأنظمة العربية لم تتجرأ حتى
الآن أن تسمي الأشياء بمسمياتها، فهي لا تقوى حتى على
التلفظ بعبارة "مقاومة عراقية" إلا ما رحم ربي، خوفاً من
البطش الأمريكي. ومازالت وسائل الإعلام العربية تصف ضحايا
الغزو الأمريكي للعراق بالقتلى. أليس كل من يسقط دفاعاً عن
تراب وطنه شهيداً؟ لماذا هم شهداء في فلسطين وقتلى في
العراق؟ هل يختلف الاحتلال الأمريكي للعراق عن الاحتلال
الإسرائيلي لفلسطين؟
ومما يزيد الطين بلة أن رهطاًً كبيراً
من الصحفيين والكتبة والمأجورين العرب والعراقيين يساعدون
الغازي الأمريكي في قلب الحقائق وتصوير الأمور بغير
ألوانها الحقيقية. فهناك مواقع الكترونية تتكاثر كالخلايا
السرطانية لا هم لها إلا النيل من المقاومة العراقية
وتشويه سمعتها والتشكيك في أهدافها ومراميها. لاحظوا هذه
الخطة الإعلامية السخيفة والمفضوحة التي تركز على مثالب
المقاومين وتتعامى تماماً عن حقيقة الاحتلال وجرائمه
الفظيعة، فبدلا ً من مجرد التذكير بأن بلدهم يرزح تحت غزو
عسكري أجنبي عز نظيره ترى بعض "الكتبنجية" العراقيين
يكيلون الشتائم لكل من يفكر بمجرد مقاومة المحتلين حتى لو
بالكلام. ولا يفلت من ألسنتهم القذرة حتى الإعلاميون الذين
يحاولون قول كلمة حق يتيمة لصالح المقاومة والحقيقة. هل
يُعقل أن يصبح الثوار الذين يأبون أن يُستباح وطنهم
وتـُنهب ثرواته ويتحول إلى ساحة لعشرات الآلاف من المرتزقة
وقطاع الطرق هل يعقل أن يصبحوا هم الإرهابيين والمارقين،
والمحتلون هم الأشراف وأصحاب الفضيلة؟
لماذا يصبح
اللص خيّراً والخيّر شريراً في خطاب الأمريكيين وأزلامهم؟
إنه نفس المنطق الذي يستخدمه اللص مع ضحاياه. هل نصدق اللص
عندما يبدأ في تشويه سمعة صاحب البيت الذي سرقه؟ بالطبع
لا، فمهما كان صاحب المنزل ساقطاً فإنه يظل أقل سفالة
وحقارة من اللص، فالبادئ أظلم. هل من المنطق أن نحول
الأنظار عن جريمة اللص ومضاعفاتها وعقوبتها ونبدأ بتشريح
شخصية مالك المنزل المسروق؟ هل يعقل أن نتجاهل جريمة
المعتدي الشائنة ونضع شخصية الضحية على المشرحة الأخلاقية؟
هل يعقل أن ندين الضحية لمجرد دفاعه عن أملاكه؟ هل من
المنطق أن نحول قضية اللصوصية والاحتلال والاستيلاء على
أملاك الغير إلى قضية محاكمة للذين وقع عليهم الاحتلال
والجور؟ من الإرهابي الحقيقي، بربكم، الذي يدافع عن تراب
وطنه أم الذين غزوا وطنه واحتلوه وأعادوه إلى القرون
الوسطى؟
على أية حال
فالأمريكيون ليسوا أول وآخر من يسمون كل من يقاومهم
إرهابيين، فهكذا كان المستعمران البريطاني والفرنسي يسميان
الحركات التي كانت تذود عن أوطانها. فلا ننسى أن المستعمر
البريطاني وصم الزعيم الهندي العظيم المهاتما غاندي
بالإرهاب مع العلم أن الأخير لم يستخدم ضد المحتل
البريطاني سوى العصيان المدني السلمي. فحتى المقاومة
السلمية كانت في نظر البريطانيين إرهاباً مذموماً. ولا
ننسى أيضاً كيف حاول المستعمر الفرنسي أن يشوه سمعة قائد
الثورة السورية الكبرى الثائر العظيم سلطان باشا الأطرش،
فاتهموه بأنه كان يؤوي المجرمين كي يقللوا من قيمته
النضالية في أعين أبناء بلده وبالتالي يعزلوه وينفروا
الناس من الالتحاق بثورته الميمونة.
ثم جاء الصهاينة
ليلعبوا اللعبة السخيفة ذاتها عندما راحوا يصورون حركات
المقاومة الفلسطينية واللبنانية على أنها حركات إرهابية
ويضعونها على قوائم الإرهاب الأمريكية، مع العلم أن كل
المواثيق الدولية التي وقعت عليها أمريكا تبيح للناس أن
يقاوموا محتليهم بشتى الطرق دون قيد أو شرط. لم نسمع أبداً
أن هذا الميثاق العالمي أو ذاك ينص على أن يكون المقاوم
صاحب شخصية مستقيمة وأخلاق حميدة وأهداف نبيلة كي يحق له
مقاومة المحتلين أو الدفاع عن أرضه. فحتى الطيور تدافع عن
أعشاشها بمناقيرها الغضة، ناهيك عن أن اللصوص أنفسهم
يدافعون عن مسروقاتهم غير الشرعية ويستبسلون للاحتفاظ بها،
فالأولى إذن بأصحاب الحقوق المشروعة أن يدافعوا عنها.
إنها ألاعيب
استعمارية معروفة ومفضوحة، فالمقاومون يظلون في نظر
المحتلين إرهابيين حتى ينتصروا ويطردوا الغزاة، وعندها
يتغير المسمى، فيصبحوا مناضلين. وهذا ما حدث لآخر الرجال
المحترمين المناضل العظيم نلسون مانديلا الذي ظل الإعلام
الغربي لعقود يصوره على أنه إرهابي سفاح. لكن ما أن خرج
مانديلا من السجن منتصراً حتى راح الزعماء الغربيون
يتسابقون على منحه الأوسمة والنياشين. فقد استقبلته ملكة
بريطانيا استقبال الأبطال وقلدته أرفع الأوسمة، ثم جاءه
الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون إلى جنوب أفريقيا كي
يلتقط معه بعض الصور التذكارية. وقد غدا مانديلاً في نظر
ملايين الغربيين رمزاً للمقاومة والصمود بعد أن كان رمزاً
للإرهاب. فلا تيئسوا إذن أيها المقاومون في طول هذا العالم
وعرضه ولا تخافوا من التصنيفات الأمريكية السخيفة، فهي شرف
لكم تحصدونه فيما بعد لو تمكنتم من مقاومتها والصمود في
وجهها. ولا تتوقعوا أبداً إلا تشويه سمعتكم من طرف
المحتلين، فكل المناضلين كانوا في نظر المستعمر ين
إرهابيين ومجرمين. لكن للتاريخ دائماً رأياً آخر. وفي
اللحظة التي ترمون فيها أسلحتكم وتستسلمون للمحتلين فإنهم
سيسقطون عنكم تهمة الإرهاب فوراً. فقد كان ياسر عرفات على
مدى عقود إرهابياً مطلوباً في نظر أمريكا والصهاينة، لكن
ما أن هادنهم حتى أصبح رجلاً محترماً جديراً بالاستقبال في
البيت الأبيض. وهكذا الأمر مع معمر القذافي الذي اتهموه
بالإرهاب لسنوات، لكنهم سحبوا التهم الموجهة إليه بمجرد أن
"اتبع ملتهم"! ولو أطلق المرجع الشيعي علي السيستاني
العنان للسانه فقط ضد الاحتلال فإنه سيتحول بين ليلة
وضحاها من شخصية دينية يقيمون لها وزناً إلى إرهابي مطلوب.
وأخيراً هل
يحق لقوات الاحتلال أن تصف المقاتلين العرب والمسلمين
الذين جاءوا لنصرة أشقائهم في العراق بأنهم إرهابيون
وسفاحون؟ ألم يقطع الملازم الفرنسي الشهير لافاييت آلاف
الأميال البحرية عندما أبحر من فرنسا إلى أمريكا كي يقاتل
إلى جانب الجنود الأمريكيين ضد المحتلين البريطانيين قبل
أكثر من مائتي عام؟ هل كان لافاييت الفرنسي إرهابياً لأنه
ساعد قوات اليانكي في دحر الغزاة الانجليز؟ أم أن
الأمريكيين خلدوه بالنـُصب والتماثيل؟ ولا شك أن العم سام
ووسائل إعلامه تعرف جيداً أن المحتل البريطاني كان بدوره
يطلق لقب إرهابي نذل على المناضل جورج واشنطن الذي حرر
أمريكا من رجس الاحتلال الانجليزي. فهل كان واشنطن
إرهابياً ساقطاً مارقاً سافلاً منحطاً؟
فيصل
القاسم
|