تعلم أبناء جيلي في صفوف الثورة الفلسطينية عندما كنا صغاراً أن يرددوا مقولة حفظناها عن ظهر قلب: نحن ضد الصهيونية، لا ضد اليهودية، وضد الصهاينة، لا اليهود. وكانت تتمة هذه الاسطوانة المكسورة في الطبعة اليسارية: نحن ضد الصهاينة العرب أيضاً، فليس كل الصهاينة يهوداً، وليس كل اليهود صهاينة، بل هناك يهود تقدميين. والمثال المفضل على هؤلاء "اليهود التقدميين" (الذين يمكن أن تعدهم على أصابع قدم واحدة) كان دوماً المحامية فيليتسيا لانغر التي تبنت عدداً من قضايا المعتقلين في السجون الصهيونية.
ولكني بت أعرف اليوم، كما يعرف عددٌ ممن كانوا يرددون نفس النغمة، أننا خدعنا أنفسنا بها كثيراً. وإذا كانت بعض القيادات الفلسطينية تقول لقواعدها أنها يجب أن تطرح هذا الموقف ولو لم تقتنع به تماماً لنكسب "الرأي العام العالمي"، ولكي لا نتهم، كشعب محتل مطرود من أرضه بالقوة، أننا "عنصريون إزاء مغتصبينا"، فقد تستطيع تلك الحجة "التكتيكية" أن تقنع بعض الناس كل الوقت، وكل الناس بعض الوقت، ولكنها يستحيل أن تقنع كل الناس كل الوقت. فالأمة لا تجمع على ضلالة.
فالحقيقة تبقى أن الذين أتوا من خلف البحار لاغتصاب فلسطين هم اليهود، وليس الصينيين أو الهنود الحمر أو قبائل الزولو الأفريقية أو سكان أيسلندا. هؤلاء اليهود الذين قدموا لبلادنا من مشارق الأرض ومغاربها لم يأتوا مهاجرين مسالمين كما يهاجر أي إنسان إلى أي مكان، بل أتوا غزاة محتلين بالرغم منا. وهؤلاء اليهود الغزاة، وليس غيرهم، هم الذين اقتلعونا من أرضنا ومارسوا ضدنا أبشع الجرائم ورمونا بعدها بأقذع الصفات عبر وسائل الإعلام المسيطر عليها. فعلام نخدع أنفسنا بعدها في التفريق ما بين غازٍ يهودي وغازٍ صهيوني على أرض فلسطين؟! أليس كل يهودي على أرض فلسطين، بغض النظر عن رغباته "اليسارية" أو الإنسانية، جزءاً موضوعياً من المشروع الصهيوني، وبالتالي عدو؟!
ورب قائل أن هؤلاء اليهود الغزاة لم يأتوا وحدهم، بل استقدمتهم الدول الإمبريالية مثل بريطانيا ليصبحوا قاعدة لها في بلادنا. ولا شك أن هذا ثابت تاريخياً. ولا نقول أن الإمبريالية بريئة، ونعرف أنها عدوة للأمة، مع اليهود أو بدونهم، وأن تأسيس قاعدة للإمبريالية في فلسطين جاء في بريطانيا بالتحديد على خلفية مشروع منع قيام الوحدة العربية بعد محمد علي باشا، فكان لا بد من "حاجز بشري غريب"، كما اسماه الساسة البريطانيون، لفصل المشرق العربي عن مغربه، ولمنع الوحدة العربية. وما زالت الإمبريالية عدوة لأمتنا بسبب مخططاتها للسيطرة على بلادنا، ولسنا من الذين يضللون أنفسنا بالقول أن الدول الغربية بريئة لولا سيطرة اليهود عليها. فهذا ليس إلا الوجه الآخر لنفس الوهم الذي يزعم أن اليهود أبرياء لولا سيطرة الإمبريالية عليهم.
فهناك سبب يجعل اليهود قابلين لاستخدامهم من قبل الإمبريالية. لأن ثمة تراث ثقافي محدد هيأ اليهود بالذات لهذا الدور. فاليهودية ليست عرقاً حتى نكون عنصريين إذا عاديناها، وهي ليست قومية حتى نكون متعصبين قومياً إذا نددنا بها، اليهودية هي عقلية التقوقع والانعزال التي ابتلت بها مجموعات من عدة أعراق وقوميات بسبب اعتناق اليهودية، فنشأت عندها عقلية الغيتو الرافض للاندماج بالشعوب التي عاشت بين ظهرانيها، وتقول كتب التاريخ أن الحاخامات كانوا يطلبون من بعض أمراء القرون الوسطى في أوروبا الغربية فرض الغرامات على اليهود الذين يعملون يوم السبت حتى لا ينسى هؤلاء أنهم يهود. وفي بعض الحالات، كان اليهودي الذي يجرؤ على انتهاك تعاليم الحاخامات يتعرض للضرب أو للقتل...
وليس صحيحاً أن اليهود "هاجروا" إلى فلسطين لأنهم عانوا التمييز في أوروبا، بل توثق كتب التاريخ دورهم الاجتماعي-الاقتصادي فوق المجتمعات التي رفضوا الاندماج فيها كوسطاء وكجباة ضرائب ومرابين وتجار ومهنيين، بعيداً عن الأرض والدولة والجيش. ولهذا كانت تثور عليهم شعوب أوروبا، خاصة في أوقات الأزمات، وهو ما سبب التمييز ضدهم لاحقاً حيث وجد.
واليهودية تتميز عن غيرها من الأديان بالكثير من التعاليم العنصرية المتعالية إزاء غير اليهود، وقد وثقنا بعض تلك التعاليم اعتماداً على كتاب إسرائيل شاحاك حول الديانة اليهودية لمن يرغب. واليهودية تتميز عن غيرها بفكرة "أرض الميعاد" أي احتلال فلسطين، وفكرة "شعب الله المختار" أي العنصرية. هذا هو تراثهم الثقافي الذي هيأهم للدور الذي يلعبونه لمصلحة الإمبريالية، أي الذي هيأهم ليكونوا صهيونيين. ومن ابتعد عن ذلك التراث، ليس يهودياً ببساطة، وليست لدينا مشكلة معه ما دام خارج فلسطين، ولا نعاديه لمجرد أنه من أم يهودية...
أما
داخل فلسطين، فإن التمييز ما بين يهودي وصهيوني ليس له أي معنى على
الإطلاق، ولهذا، توصلت مجموعة من القوميين واليساريين العرب بناءً على
الحيثيات السابقة أن مشكلتنا مع اليهودية عامة، ومع اليهود في فلسطين
خاصة، وليس مع عدو هلامي هو الصهيونية، وأن الموقف الذي لا يميز بين
اليهودي والصهيوني، بالتالي، هو الأقرب للمنطق ومصلحة الأمة، حتى دون
النظر إلى أي اعتبارات شرعية. |